تجديد الرؤيا (نص نظري) - تحليل نص 'قصيدة الرؤيا' لعلي أحمد سعيد أدونيس
إشكالية النص وفرضيات القراءة
توالت حركات التجديد الشعرية لتمنح الشعر في كل مرة مفهوما يخرق مكونات البناء الشعري الجاهز، ولم يقف التنظير للشعر وإبداعه عند تكسير بنيته، بل شمل مضامينه ورؤاه. فأصبحت القصيدة رؤيا تتطور تبعا لنمو الحقل الشعري وكثافته ودرجة انفتاحه على العالم، ومستوى ثرائه وقدرته على التغيير والتعبير عن الوجود، بحيث يتلاحم الحلم والواقع والرمز والأسطورة.
ولإضاءة شعر الرؤيا برزت دراسات نقدية عديدة حاولت توصيفه وتمييزه عن شعر تكسير البنية. ومنها أبحاث حسن مخافي في كتابه ” القصيدة الرؤيا” ومحمد الفارس في ” الرؤيا الإبداعية في شعر صلاح عبد الصبور” وإدريس الزمراني في ” أفق الرؤيا : مقاربات في النص والإبداع” وأحمد رحماني في ” الرؤيا والتشكيل في الأدب المعاصر” ثم صبحي محيي الدين في ” الرؤيا في شعر البياتي”. ويعد أدونيس أول من أصل مفهوم قصيدة الرؤيا في النقد العربي. ولد بسوريا سنة 1930. نشأ في بيئة صوفية درزية تؤمن بنظرية التجلي والحلول، غزير الثقافة عربية وغربية، متأثر بمدرسة فرانكفورت الألمانية والشعر الرمزي والسوريالي والظاهراتية وغيرها. وقد شكلت مجلة ” شعر “، التي أسسها مع يوسف الخال، منطلق تصوره للشعر الجديد،. وعلى المستوى النقدي استلهم مفهوم الحداثة، ونبش عن جذوره في الشعر العربي، وأعاد النظر في العديد من المسلمات النقدية والأدبية. أنتج مؤلفات نقدية عدة مثل: (الثابت والمتحول ـ الشعرية العربية ـ مقدمة للشعر العربي..). ودواوين شعرية مثل: (قصائد أولى ـ هذا هو اسمي ـ مفرد بصيغة الجمع..). والنص الذي بين أيدينا من كتابه: ” زمن الشعر “. فما القضية التي يطرحها؟ وما مفاهيمها وإطارها المرجعي ؟
”قصيدة الرؤيا” مركب إضافي يفصح عبره العنوان عن علاقة استلزام واقتضاء شديدين بين المضاف والمضاف إليه، ويوحي بالتطور الذي عرفته القصيدة المعاصرة من خلخلة محتشمة على مستوى الصياغة الشكلية والخريطة الإيقاعية في تكسير البنية إلى هدم جذري وإعادة بناء للنص الشعري تتحدد فيه بنياته الشكلية والمضمونية في كل تجربة بما يصنع ماهية جديدة ورؤيا متجددة. وتتضمن الجملة الأولى في النص “لعل خير ما نعرف به الشعر هو أنه رؤيا ” مفهوما مركزيا (الرؤيا)، يرتبط بدلالة العنوان من خلال الإشارة إلى طبيعة قصيدة الرؤيا وهويتها. ومن خلال المشيرات السابقة نفترض أن الإشكالية المطروحة في النص تتعلق بمفهوم الرؤيا في الشعر المعاصر، وأن الفرضية التي يمكن الانطلاق منها هي أن الرؤيا في القصيدة الحديثة مرتهنة إلى خاصية الكشف والتمرد.
فهم النص
يمكن تقسيم النص للفقرات التالية :
- الفقرة الاولى : تعريف الشعر الجديد: هو رؤيا تعتبر تغييرا في نظام الأشياء.
- الفقرة الثانية : الشعر الجديد معرفة لها قوانينها الخاصة : انه إحساس كشفي لجوهر الإنسان عن طريق الخيال والحلم.
- الفقرة الثالثة : توجهات الشعر الجديد: الشعر الجديد يبطل أن يكون شعر وقائع، الشعر الجديد يبتعد عن الجزئية ،انه رؤيا للعالم، الشعر الجديد يتخلى عن الرؤية الأفقية، الشعر الجديد يتخلى عن التفكك البنائي.
- الفقرة الرابعة : عالم الشعر الجديد، كشف لما هو غير مألوف.
- الفقرة الخامسة : الشعر الجديد كشف ورؤيا.
عرف الكاتب الشعر الجديد بكونه رؤيا، إي تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها، وتمرد على الأشكال والطرق القديمة، إنه “كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف”. والشاعر الجديد قلق متمرد متميز في الخلق، وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وفي نفسه. والشعر الجديد نوع من المعرفة الباطنية، وإحساس شامل بالحضور، ودعوة لوضع الظواهر موضع البحث والشك، وإحساس كشفي بالأشياء يطال جوهرها الذي لا يدرك بالعقل والمنطق، بل بالخيال والحلم. ويتميز شعر الرؤيا عن شعر الحادثة والوقائع بتناول الظواهر الأكثر ثباتا وديمومة، والأقل ارتباطا بالزمان والمكان، فهو في غير حاجة إلى مواد محسوسة.
وقد عرض الناقد السمات المميزة لشعر الرؤيا كالآتي:
- أنه يفرغ الكلمة من ثقلها القديم، ويشحنها بدلالات غير مطروقة.
- أنه رؤيا للعالم تتجنب النظرة الجزئية، والإصلاحية الوعظية المباشرة، وتنخرط في رؤيا شاملة تستقطب كل حقول الفكر.
- أنه لا يعبر عن رؤيا أفقية سردية ووصفية، بل يتجاوز السطح، ويغوص فيما وراء الظواهر، ويكشف عن حيوية العالم وطاقاته المتجددة، فيتحد معه.
- أنه يستعيض عن التفكك البنائي، وعن التشابيه والاستعارات بالصورة التركيبية: الصورة ـ الرمز، أو الصورة ـ الشيء.
- أنه شكل جديد من وجود جديد، أي بناء فني وتعبير جديد، أي ماهية (رؤيا) وشكل. والشعر الجديد باعتباره كشفا ورؤيا غامض، متردد، لا منطقي، في حاجة دائمة إلى حرية في التبنين، ولكن دون الوقوع في فوضى الشكل، لأن الشكل غير مهم بقدر ماهي وظيفة الممارسة الشعرية.
تحليل النص
الإشكالية المطروحة
يطرح النص إشكالية قصيدة الرؤيا باعتبارها تغييرا في مفهوم الشعر، وفي علاقة الشاعر بذاته وبالعالم من حوله، مفهوم يعارض النظرة التقليدية الموسومة بالجزئية والأفقية، والعالم الذي تخلقه هذه القصيدة / الرؤيا هو عالم الكشف والاستشراف بما تملكه هذه القصيدة من إمكانات تخييلية وطاقات معرفية مستكشفة مستكنهة، وطاقات تعبيرية تثويرية تفجيرية خلاقة.
المفاهيم والقضايا
استمد الكاتب مصطلحات ومفاهيم دراسته للشعر الجديد من أربعة حقول معرفية مختلفة من حيث مرجعياتها:
الحقل الأدبي والنقدي | الشعر الجديد – الطرق الشعرية القديمة – الشاعر الجديد – الحادثة... |
الحقل النفسي | رؤيا نفسه – الذات – إحساس – الخيال – الحلم... |
الحقل الفلسفي | نظام الأشياء – الكشف عن العالم – قلق الإنسان – الخلق –مشكلات كيانية – المعرفة – العلم ميتافيزيائية – العقل – المنطق... |
تهيمن المصطلحات والمفاهيم الفلسفية لأن الكاتب في سياق عرض الفلسفة الجديدة التي يقوم عليها الشعر الجديد. وهي مصطلحات ومفاهيم ستؤسس للنقد والأدب كمؤطرين للقصيدة الرؤيا. والظاهر أن الحقل الفلسفي في النص في خدمة النقد، لأنه يسهم في توضيح مقارنات الكاتب بين مفهومي الشعر الجديد والقديم. وبما أن مفهوم الرؤيا مركزي في النص، فإن الكاتب أضاءه بمجموعة من المفاهيم مثل:
- تمرد : ويعني الثورة على المعطى الجاهز والمغلق والمحدود ،
- تجاوز : ويعني تجاهل المظاهر السطحية للأشياء، وتجاوز الواقع المقيد بالزمان والمكان، وتجاوز الحادثة العارضة إلى الظاهرة الثابتة وأسرارها العميقة.
- استشراف : ويعني قدرة الشعر الجديد على التنبؤ.
- كشف : معرفة ميتافيزيقية تحس بالأشياء كما هي في جوهرها وصميمها غير المدركين بالعقل والمنطق، بل الخيال والحلم.
والسمات المشتركة بين هذه المفاهيم هي دلالتها على قصيدة الرؤيا.
وقد تفرعت عن قضية النص الأساس ثنائيات ضدية يمكن تمثيلها كالآتي:
- رؤيا / رؤيا أفقية : أي أن النظر إلى الحياة باعتبارها مشهدا أو ريفا أو نزهة أو موقفا أو مناسبة… نظر مختزل في أشكال ووظائف، وموقف فني وفلسفي كلاسيكي يتسم بالأفقية والسطحية، بيد أن الرؤيا تستلزم تجاوز العلاقة الشكلية والنفاذ إلى ما وراء ذلك من عوالم خفية ومغيبة ولا محدودة.
- معنى خلاق وتوليدي/ معنى سردي وصفي : أي معنى يسرد الأشياء ويرتبها في الزمان، ويصفها في المكان وكأنها كيان مسطح له بعد واحد بخلاف المعنى الكشفي المشاغب.
- الخيال والحلم / العقل والمنطق : فالعقل والمنطق يمكنان من تكوين معرفة موضوعية بالأشياء والحياة، بينما الخيال حدس بواقع ليس سوى إمكانات تتطور بشكل لا نهائي، ولا تسبر أغواره الخفية إلا بالخيال.
يمكن أن نستخلص من هذه القضايا السمات التي تميز قصيدة الرؤيا عن قصيدة الموضوع أو الموقف، وهي قيامها على إبداع صيغ تعبيرية جديدة، تلامس الواقع بحس ثوري وكشف عن الخفي ورؤية استشرافية.
الإطار المرجعي
صاغ الكاتب مفهوم الرؤيا استنادا إلى أطر مرجعية متنوعة وسمت مقاربته بالعمق النظري والكفاية التفسيرية الملائمة، ومنها:
- التصوف : ومنه أخذ مفهوم الكشف
- السوريالية / ما فوق الواقعية : التحلل من واقع الحياة الواعية، والزعم أن خلفها حياة أخرى أقوى فاعلية وأعظم اتساعا، وهي كامنة في اللاوعي، وتقوم على تحرير الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن. وعلى التعبير الغامض الذي يسبر كنه الأشياء المتواري خلف مظهرها السطحي المباشر المتجلي للعيان.
- الرومانسية : جموح الخيال وتشعب العاطفة والتركيز على الذات وخصوصية الفرد النفسية والشعورية، حيث الأدب، وخاصة الشعر، ليس محاكاة للحياة والطبيعة، بل خلق، وأداة هذا الخلق ليست العقل ولا الملاحظة المباشرة، بل الخيال المبتكر أو المؤلف بين العناصر المشتتة في الواقع الراهن أو ذكريات الماضي، وفي إرهاصات المستقبل وآماله. والضابط هنا هو قوة الرؤيا الشعرية ووضوحها وعمقها على نحو يثير كوامن الشاعرية ويهز كيانه بحيث تصبح هذه الرؤية الشعرية بمثابة تجربة بشرية حقيقية صادقة. كما يؤكد هذا المذهب على التعبير الذاتي الصادق، والإعلاء من مكانة الحلم والخيال في التعبير عن الحياة والنفس. فالشاعر يساهم في رسم صورة للإنسان من خلال الثورة والتمرد على رواسب الماضي الثقافية والفنية..
- الوجودية : تنكر ماهية الإنسان ولا تؤمن إلا بوجوده الآني؛ فأي جاهز أو متوارث لا قيمة له. وعلى الإنسان التخلص من كل ذلك لينطلق في الحياة ويحقق وجوده، فيصبح سيد لنفسه ومرجعيته ذاته، وهو أساس مفهوم الحداثة. والوجودية ترتكز على ثلاثة أعمدة، هي : الحرية، والمسؤولية، والالتزام، لذا من الطبيعي أن تنتج عنها عدة نتائج أو مشاعر خطيرة يحسها الفرد في سلوكه عبر الحياة. وهذه المشاعر هي : القلق، والهجران (أي الشعور بأنه وحيد مهجور)، واليأس (وإن كان الوجودي يعيش من أجل العمل في حد ذاته، كالصائد الذي يتلذذ بعملية الصيد ذاتها أكثر مما يتلذذ بعصفور أو سمكة يأكلها بعد صيده لها).
- الرمزية : وهي في مجال الشعر تغذي خلق حالة نفسية خاصة والإيحاء بتلك الحالة في غموض وإبهام، والرمزية تكتفي بالإيحاء النفسي والتصوير العام عن طريق الرمز وتراسل الحواس. وتؤمن بعجز العقل الواعي عن إدراك الحقائق النفسية العميقة والمركبة، لذلك تتولى ممكنات اللغة وعملية نحت الصور والأخيلة من جزئيات الرموز والملفوظات المغربة هذه المهمة بفضل الخيال الخلاق الذي يتغلغل عبر الحدس والكشف إلى أعماق اللاوعي متجاوزا وظائف الأجهزة الإدراكية الحسية معدلا فيها ليبني رؤى شعرية بلغة أشبه بلغة الحلم.
طرائق العرض
جمع الكاتب بين النقد الوصفي والنقد المعياري في عرضه لقضيته، فمن الوصفي تحديده ماهية الشعر والقضايا المرتبطة بقصيدة الرؤيا ومقارنته بين شعر الرؤيا وغيره. واستعراض السمات المميزة لما يعتبره الشعر الحقيقي. ومن المعياري التوسل باللغة العلمية الموضوعية المبنية على خلفيات فلسفية وفكرية رائجة، واعتماد لغة اصطلاحية دقيقة، وتحاشي الأفكار المسبقة والأحكام المطلقة أو التصورات القابلة لتعدد التأويل، أو الدلالات الإيحائية، أو غير ذلك مما يحسب على النقد الانطباعي أو التفسيري أو الجمالي. واستعمل الناقد أسلوب المقارنة للتمييز بين مقومات الشعر التقليدي والشعر الجديد، شعر الرؤيا وشعر الحادثة والوقائع. وإذا كان قد استشهد بأقوال شعراء غربيين ينتمون إلى مذاهب مختلفة، فإن ذلك يعني تأثره بالثقافة الشعرية الغربية، ومحاولته صهر منطلقاتها وتصوراتها للإبداع وأدواته في تيار تجديد الرؤيا الذي يعد من رواده.
وظف الناقد حججا لتدعيم أطروحته ارتكزت على:
- التعريف: تحديد ماهية شعر الرؤيا وإبراز أهم سماته ومميزاته، وتحديد بعض صفات الشاعر الجديد.
- المقارنة : توسيم شعر الرؤيا بمقابلته بنقيضه (الشعر التقليدي)
- التفسير: الاستناد إلى معايير جمالية في تحديد خصائص شعر الرؤيا كرفض الجاهز وخرق المألوف (اللغة الانزياحية) وتجنب الجزئية والنزعة العلامية والتوجيهية.
واعتمد الكاتب طريقة استنباطية تحليلية عرض فيها أولا مفهوم الرؤيا عامة، ثم انتقل إلى الحديث عن تجلياتها في التحققات الجزئية كالإحساس والحلم والخيال والصورة والتعامل مع الكلمة لتشويق المتلقي إلى معرفة خصائص المفهوم بصدمه في البداية باصطلاحه العام، ثم الكشف عن حقيقته عبر التدرج في وصف الجزئيات والخصائص لإقناع المتلقي بفاعلية الوصف.
التركيــــب
عرض الكاتب مفهوم قصيدة الرؤيا في سياق رده على معترضٍ ضمني، يُفترض أنه يتبنى مفهوم الشعر التقليدي، أو التحديث السطحي الذي يراهن على تغيير الشكل، ولا شك أن مقصديته هي تأسيس مفهوم جديد للشعر يضع حدا فاصلا بين الشعر التقليدي وقصيدة الرؤيا التي تقوم على ركوب المغامرة والكشف والثورة والتمرد على المواضعات الاجتماعية والأخلاقية والفنية والغموض والتجاوز والاستشراف.. وذاك ما يولد الشكل التعبيري. هكذا نتأكد من الفرضية التي انطلقنا منها، وهي مراهنة الناقد على اعتبار شعر الرؤيا شعر كشف وتمرد على الأشكال القائمة وأنظمة المعنى الموروثة بما تختزنه من تمثلات وقيم مستهلكة.