تكسير البنية (نص نظري) - تحليل نص 'قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة' لعز الدين اسماعيل
مدخل عام
تبلور خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا في سياق ظروف وعوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية محددة جاءت نتيجة جهود جماعية ملحة في التغيير وطلب البديل، واستجابة واندماجا في الصياغة الجديدة لحياة الإنسان الحديث ومستلزمات تطوره. فقد تأثر الشاعر المعاصر بحساسية العصر وذوقه ونبضه، وارتبط بقضاياه ارتباط المعايش لا الواصف، وعبر عن خبرة شعورية خاصة مصهورة في إطار عام. وحاول استكناه الحياة بدل الانفعال السطحي بها، فانفتح على الثقافات الإنسانية محددا موقفه منها، ورغب في تملك عصره فكريا ووجدانيا. وانطلق من مساءلة الممكن والاحتجاج على السائد، مما جعل شعره عنيفا وثوريا، فجاء هذا الخطاب بحثا عن سؤال جوهري هو كيف نتجاوز خيبة الهزيمة وأثرها السلبي؟ وسعيا إلى البحث عن آفاق إبداعية لا عهد للقصيدة بها. واقترانا بمفهوم جديد للإبداع والتجديد يخالف أنماط الخطابات السابقة التي استنفذت مسوغات وجودها جوهريا وقضويا وفنيا. فكان شعره تجسيدا لتجربة متميزة تتكسر في أفقها المعايير الإحيائية والرومانسية.
ومن بين أهم عوامل نشأة خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا نذكر:
- المد القومي وانـهيار المجتمع العربي التقليدي بحكم الغزو الأوربي؛ مما زرع الشك في نفوس المثقفين والمبدعين، وأسقط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات الممنوعة.
- الإحساس العام بمرارة الهزيمة خاصة بعد ضياع فلسطين عقب نكبة 1948 والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وهزيمة 1967..
- تحول هذا الإحساس إلى حساسية سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تمثلت في ظهور طبقات اجتماعية جديدة (مثقفة، عمالية، تجارية، سياسية).
- صعود المد الاشتراكي وانبثاق الحركات الوطنية والقومية ضد الهيمنة الاستعمارية.
- الاحتكاك بالثقافات الأجنبية والتسلح بمعارف متنوعة (كالفلسفة والتاريخ والأساطير وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا، واستيعاب الروافد الفكرية الآتية من الشرق وبالضبط المذاهب الصوفية والتعاليم المنحدرة من الديانات الهندية والفارسية والحرانية / الصابئة)، فضلا عن الاستفادة من الفلسفة الوجودية والفلسفة الاشتراكية. مع الانفتاح على الثقافة الشعبية كسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن وأبي زيد الهلالي، وكتاب ألف ليلة وليلة، والتعمق في القرآن الكريم، وقراءة الحديث النبوي الشريف، والشعر العربي القديم.
- تراكم المحاولات التجديدية المهيئة للقفزة النوعية للقصيدة الحرة (الحركة الرومانسية بمدارسها المختلفة داخل وخارج الوطن العربي)
- عدم قدرة الشكل التقليدي على النهوض بمضمون جديد، فقد صار شديد الارتباط بالمعاني التقليدية في التعبير عن العواطف الإنسانية حتى لم يعد ممكنا أن يحمل معنى جديدا، أو موقفا أو طريقة جديدة في التعبير.
- انفتاح بعض المجلات على إبداع الشعراء الشباب، مثل: “شعر” و “الثقافة ” المصريتان، و”الآداب ” البيروتية.
- تطلع الشعراء الشباب إلى قصيدة جديدة تستجيب للواقع الجديد، وتـقدم بدائل وحلولا للقضايا الاجتماعية والثقافية والجمالية.. تقول نازك الملائكة: “إن حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محض، تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث، شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتها في مختلف المجالات”.
سؤال البداية
إذا كان الدارسون يجعلون بدر شاكر السياب رائدا لحركة الشعر الحر، فإن هناك من يرجع بداياته الأولى إلى لويس عوض في قصيدته “العنقاء”، وبيرم التونسي في بعض مقاطع قصيدته “الكون” التي نشرها عام 1933، و أحمد باكثير في ترجمته لمسرحية “روميو وجولييت” سنة 1937.
وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: “إن بداية الشعر الحر سنة 1947 بالعراق ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت العالم العربي”. وأشارت إلى أن أول قصيدة حرة في الوزن هي قصيدتها “الكوليرا”، التي نشرتها مجلة “العروبة” البيروتية في 27 يناير 1947، تصور فيها مشاعرها نحو مصر التي داهمها وباء الكوليرا.. وتقول فيها:
سكن الليل
اِصغ إلى وقع صدى الأنات
في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات
بعد ذلك صدر ديوان بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة ” وفيه قصيدة من الوزن الحر بعنوان: “هل كان حبا؟ “، مؤرخة ب 29 نونبر 1946، معلقا على هامشها بقوله: ” في هذه القصيدة محاولة جديدة في الشعر المختلف الأوزان والقوافي، وهي كأغلب الشعر الغربي، وخاصة الإنجليزي، تجمع بين بحر من البحور ومجزوأته “، يقول فيها الشاعر:
هل يكون الحب أني
بت عبدا للتمني
أم هو الحب اطراح الأمنيات
والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة
مراحل الـتطـور
في أواسط الأربعينات كان الشعر الحر يجتاز أولى عتبات نموه بين أحضان الحس القومي والاجتماعي والإنساني العام، وبدأت الدعوة إلى القصيدة المعاصرة ترسي أسسها بمحاولات للخروج عن هيكل الشعر وبنائه، وتحريره من سيطرة الأوزان، واعتماد وحدة التفعيلة أساسا وزنيا بديلا عن العمود الخليلي بوحدة وزنه وقافيته ورويه وكان هذا ما اصطلح عليه بشعر تكسير البنية، الذي سعى إلى تغيير المعالم الشكلية للقصيدة القديمة معتمدة على التوفيق بين الوحدة العضوية وتناسق موسيقى اللفظ وإيقاع التفعيلة، وبين وظيفة الصورة في بناء الموقف والانفعال والتجربة. وهو الحد الأدني المتفق عليه بين رواد المنعطف الجديد في الشعر العربي فكانت أعمال نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ويوسف الخال، وأدونيس.
لكن سرعان ما تشكلت ثورة جديدة من رحم حركة تكسير البنية تزعمها أدونيس أواخر الخمسينات من ق 20، وسار على دربه شعراء حاولوا بلورة رؤية جديدة للشعر والأدب، أمثال أحمد عبد المعطي حجازي في مصر، ويوسف الخال وخليل حاوي في سوريا ولبنان، وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي في فلسطين، والمجاطي وعبد الله راجع والخمارالكنوني والسرغيني ومحمد بنيس وصلاح بوسريف وأحمد بلبداوي في المغرب. فكان أن أطلق أدونيس مفهوم قصيدة الرؤيا على هذا الشعر انطلاقا من هدم أسس التراث الشعري المعرفية والفنية والجمالية والإيقاعية وإعادة بنائها. وكان جوهر هذا الشعر هو التعبير عن معاناة الشاعر الحقيقية، وما تعيشه الإنسانية المعذبة. فقد أصبحت القصيدة تجربة إنسانية بما فرض عليها من أزمات وأحداث سياسية وحروب أثخنت المنطقة العربية، دون نسيان ضياع فلسطين والإحباط الذي ران على الفكر العربي، والافتتان بحضارة الغرب وثقافته، خصوصا المديني والاشتراكي والوجودي. وانخرطت القصيدة في مشروع ثقافي رؤيوي يتغيى التغيير والبحث عن بدائل تعبيرية للخروج من الأزمة وتوجيه سلوك القارئ وفكره وأسلوب حياته.
لم يعد الشعر على يد هؤلاء، إذن، مجرد تحول في الشكل وبناء المواقف عبر التجارب الإنسانية، بل أصبح الإنسان هو جوهر التجربة، إنها تجربة مع المستقبل عن طريق تشكل الرؤيا من خلال:
- التجربة الحياتية: انطلاقا من الإحاطة بالواقع وفهمه فهما دقيقا وواعيا.
- التجربة الشعرية: التي تمكن الشاعر من صياغة الرؤيا جماليا.
- الحدس: عن طريق الإحساس بالواقع والقدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء.
- الاعتماد على فكرتي الهدم والبناء.
ملاحظة النص
أول ما يمكن أن نلاحظه هو العنوان باعتباره العتبة الأولى للدخول إلى النص.. وهو يشي بالأفكار التالية:
- القصيدة العربية ذات إطار موسيقي جديد، وهذا يعني أنها تخلت عن الإطار الموسيقي القديم.
- الإطار الموسيقي الجديد يطرح عدة قضايا، وهذا يعني أن التحول الذي عرفته القصيدة العربية لم يكن محل إجماع نقدي.
- النص يطرح هذه القضايا ويعالجها...
وثاني ما يمكن أن نلاحظه هو أن النص في سياق طرحه لقضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة إنما يسعى إلى كتابة تاريخ لموسيقى الشعر العربي.. وهذا ما تكشف عنه الفقرة الأولى حيث يتم تقسيم مسار تطور الشعر العربي موسيقيا إلى ثلاث مراحل..
وثالث ما يمكن أن نلاحظه هو الخاصية الحجاجية للنص والتي تتمثل في محاولة تصحيح بعض التصورات الخاطئة عن القصيدة العربية وإنصافها ورفع الظلم عنها.
فهم النص
ينقسم النص إلى عدة فقرات على الشكل التالي:
الأولى تنتهي عند "تفصيلا"
يقسم الكاتب مسار تطور موسيقى الشعر العربي إلى ثلاث مراحل هي:
- مرحلة البيت الشعري ذي الشطرين المتوازيين عروضيا والذي ينتهي بقافية يشترك فيها مع باقي الأبيات الأخرى.. وفيه تتجلى كل المظاهر الجمالية لموسيقى الشعر العربي منذ بداياته..
- مرحلة السطر الشعري وهو نتيجة لتفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي بحيث لم يستبق منها سوى التفعيلة التي ترد مفردة في السطر أو مكررة في أعداد غير منضبطة.
- مرحلة الجملة الشعرية وهي متطورة عن مرحلة السطر الشعري..
ثم يشير الكاتب إلى أن لكل مرحلة مشكلاتها الجمالية الخاصة والتي يعد بعرضها بالتفصيل..
الثانية تنتهي عند "العتيد"
يعرض الكاتب لجماليات موسيقى البيت التقليدي فينطلق من مسلمة هي أن النظام قوام الأعمال الفنية على اختلافها، وأن لكل فن وسائله الخاصة لتحقيق هذا النظام.. والنظام الموسيقي في القصيدة العربية قد تحدد في التزام عدد من القواعد الشكلية لضبط القوافي والأوزان.. وهذه القواعد هي المنظمة لموسيقى الشعر التقليدي.. وقد كان من بين ما وجه إلى القصيدة العربية الحديثة من انتقادات هو انها كسرت ذلك النظام وتورطت في الفوضى.
الثالثة تنتهي عند "عليه"
يقر الكاتب بأن القصيدة الحديثة تقوم بدورها على نظام يبرئها من التورط في الفوضى.. كما يشير إلى ان نظامها داخلي في مجمله لأنه ينتمي إليها ونابع منها وليس شيئا خارجيا مفروضا عليها..
الرابعة تنتهي عند "وهو نظام التفعيلة"
فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى السطر الشعري..فيعرفه بكونه تركيبة موسيقية للكلام لا ترتبط بأي شكل خارجي ثابت بل تتخذ الشكل الذي يرى الشاعر أنه يرتاح إليه ويعتقد أن القارئ يرتاح إليه بدوره.. والسطر الشعري ناتج عن تفتيت البنية العروضية للبيت التقليدي حيث لم يستبق منها سوى الوحدة الأساسية فيها وهي التفعيلة يفردها الشاعر في سطر ويكررها في آخر.. والفرق بين السطر الشعري والبيت التقليدي هو أن هذا الأخير له طول ثابت لأن عدد التفعيلات فيه لا يتغير من بيت إلى آخر عكس السطر الشطري الذي يتغير طوله بتغير عدد التفعيلات من سطر إلى آخر..
الخامسة تنتهي عند "من القصيدة"
فيها يعرض الكاتب جماليات موسيقى الجملة الشعرية فيقرر بأنها الصورة المتطورة عن مرحلة السطر الشعري.. فإذا كان هذا الأخير بنية موسيقية تشغل سطرا قد يقوم على تسع تفعيلات كحد أقصى، وإذا كان مكتفيا بذاته، فإن الجملة الشعرية بدورها بنية موسيقة مكتفية بذاتها غير أنها قد تمتد لتشغل خمسة أسطر أو أكثر..
ويشير الكاتب في نهاية هذه الفقرة إلى نيته في التوقف عند ما يسميه اعتبارات امتداد الجملة الشعرية..
السادسة تنتهي عند "لهذه الدفقة"
يذكر الكاتب بأن الدفقة الشعورية المعبر عنها قد تطول وتمتد حتى ليعجز البيت التقليدي المحدود الطول عن استيعابها كما لا يستطيع السطر الشعري ذلك مهما امتد وطال لأن أقصى حد لتفعيلاته هو تسع تفعيلات.
ويذكر أيضا بالمأزق الذي عاناه الشاعر التقليدي مع البيت التقليدي المحدود الطول بحيث أن هذا الشاعر كان مضطرا لتمزيق الدفقة الشعورة وتقسيمها على عدة أبيات وهذا ما كان يمنع من أن تفوز الدفقة الشعورية بالشكل الموسيقى المناسب لها..
السابعة تنتهي عند "بالجملة الشعرية"
ينطلق الكاتب من مسلمة هي أن التعبير ( الشكل ) ملك للشعور ( المحتوى = المضمون ) وتابع له.. وعليه فالدفقة الشعورية يجب أن تحظى بالصورة الموسيقية الملائمة لها.. فإن امتدت الدفقة امتدت الصورة الموسيقية.. ومن هنا كان الخروج إلى مرحلة السطر الشعري وسيلة فعالة لحل مشكلة الدفقة الشعورية القصيرة أو المتوسطة ؛ لكنها لم تحل مشكلة الدفقة الشعورية الممتدة مهما بلغ السطر من الطول.. وبما أن الدفقة تمتد أحيانا فتبلغ حدا لا يستطيع السطر استيعابه فقد كان لا بد من الخروج من مرحلة السطر إلى مرحلة الجملة الشعرية.
إشكالية النص وفرضيات القراءة
مهدت الرومانسية لتحديث الشعر العربي، وأعقبتها جهود مجموعة من الرواد عمدوا إلى تكسير بنيته، فتطويره مضمونا وشكلا. وهذا التحول الشمولي في جسم القصيدة العربية يطرح قضيتين: تتعلق الأولى بالنقاد الذين صاغوا المفاهيم المؤطرة للظاهرة، وتستفسر الثانية عن شكل هذا الجنين في إبداعات شعراء تشربوا تلك المفاهيم. وتعد نازك الملائكة من أوائل من خاضوا تجربة الصياغة النقدية والإبداعية لقصيدة التفعيلة (تكسير البنية) رغم مواجهة كثير من الرفض من قبل النقاد. ثم توالت أعمال نقدية، بعد أن صار الجنين رجلا مكتملا، تبرر التغيير الجذري في بنية الشعر العربي وتعرف بالظاهرة وتكشف أبعادها. ونذكر منها كتابات محمد النويهي وغالي شكري وعز الدين إسماعيل (1929 ـ 2007) الذي بدأ تنظيره للشعر الجديد في مرحلة مبكرة، فأنتج العديد من المؤلفات، نذكر منها (آفاق معرفية في الإبداع والنقد والأدب والشعر) و (التفسير النفسي للأدب) و (الأسس الجمالية في النقد العربي) و (الشعر في إطار العصر الثوري) وديوانين (دمعة للأسى ـ دمعة للفرح) و(هوامش في القلب). ويعد كتابه (الشعر العربي المعاصر: قضاياه وطواهره الفنية والمعنوية) من الأعمال النقدية التي بلورت رؤية شاملة لشعرنا المعاصر جمعت بين تاريخيته وبين قضاياه وأسسه الشكلية والمضمونية. والنص موضوع تحليلنا مأخوذ من هذا الكتاب. فما القضية التي يطرحها ؟ وما الإطار المرجعي الذي تستند إليه ؟
توحي مكونات العنوان ” قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة ” بكون البنية الموسيقية للشعر ستتخذ في النص بعدا إشكاليا، وتتفرع إلى عدد من القضايا يتحكم فيها سياق الحداثة الشعرية. ذلك أن أهم ما وجه تجربة الشعر الجديد تكسيرها صورة النظام حسب منطوق مشير نصي يضيء دلالة العنوان ويؤشر على التغييرات الجذرية التي أحدثتها ثورة هذا الشعر على طبيعته ومفهومه بفعل تغيير بنيته وصورة نظامه. لذلك نفترض أن القضية المطروحة في النص تعنى بتطور البنية الإيقاعية داخل القصيدة الحديثة، وتداعيات هذا التطور على البنيات الأخرى الشعورية والنصية.
تكثيف معاني النص
يكشف النص عن جملة من القضايا النقدية هي:
- تحديد مراحل تطور موسيقى الشعر العربي الحديث من البيت الشعري إلى الجملة الشعرية مرورا بالسطر الشعري
- تفسير جماليات موسيقى البيت الشعري المتمثلة في نظام يلتزم بقواعد شكلية ضابطة للأوزان والقوافي
- اعتبار تكسير الشعر الجديد لقواعد هذا النظام عملا غير فوضي، بل خلقا لنظام داخلي جديد.
- تعليل جماليات موسيقى السطر الشعري بكونها تركيبة موسيقية للكلام تقوم على نظام التفعيلة المترددة الذي هو أساس النظام الصوتي في الشعر العربي القديم والحديث.
- التنصيص على احتفاظ موسيقية الجملة الشعرية بالخصائص الموسيقية للسطر وتجاوزه في آن واحد، فهي تمتد أحيانا إلى أكثر من خمسة أسطر وهي بنية مكتفية بذاتها، وإن مثلت جزئية من بنية عضوية أعم هي القصيدة.
- تفسير الناقد تنوع البنيات الموسيقية في الشعر سطرا وجملة باختلاف مدى الدفقة الشعورية.
- تأكيد الكاتب أن ارتباط السطر والجملة الشعريين بالدفقة الشعورية يحقق تساوقا جماليا بين الشعور وصورة التعبير في مرونة وطواعية.
نستخلص مما سبق أن لتكسير البنية في الشعر العربي المعاصر مظاهر تتمثل في اعتماد نظام السطر الشعري كوحدة موسيقية مكتفية بذاتها، ولكنها تندرج ضمن وحدة عضوية أشمل، وكذلك اعتماد الجملة الشعرية كوحدة موسيقية أوسع تتسع لخمسة أسطر أو أكثر بالشكل الذي يحتوي الدفقة الشعورية، ويضيق به السطر الشعري.
تحليل النص
الإشكالية المطروحة
جماليات الشعر القديم والحديث مثار خلاف بين النقاد والأدباء، وخاصة منها البنية الإيقاعية والتشكيل الموسيقي للقصيدة الشعرية، نظرا لجوهريتهما في التعبير الشعري. فكان السؤال أيهما أفضل: الإيقاع القديم أم الجديد؟ وما مبررات تفضيل أحدهما على الآخر؟
لعل ما عمق النقاش في هذه الإشكالية أنها ألزمت النقاد بالتسلح في مناقشاتهم بخلفيات نظرية وأطر مرجعية ومفاهيم وتصورات لتدعيم مواقفهم، والمحصلة أن لكل نظام موسيقي، قديم أو جديد جماليته؛ مما يفرض عدم الاستهانة بأي منها، والبحث في قوانين كل منها، والغوص في عوامل تشكيلها وأشكال تحققها. من هنا تخللت النص إشارات إلى هذا المعطى الإشكالي وتلك المحصلة.
المفاهيم والقضايا
يحفل النص بمصطلحات عروضية قديمة (البيت، الشطران المتوازيان عروضيا، قافية مطردة، الأبيات، التفعيلة، الأوزان والقوافي…) ومصطلحات إيقاعية جديدة (الإطار الموسيقي، موسيقى الشعر، التفعيلة، السطر، الجملة الشعرية، نظام داخلي، بنية موسيقية مكتفية بذاتها…)، وتطرح هذه المصطلحات المتباينة قضية أساسية هي تكسير الشعر العربي الجديد لبنية إيقاع البيت الشعري، وبناء إطار موسيقي جديد. (وليس بناء موسيقى جديدة لها قوانينها النهائية، لأنها بذلك ستعلن موتها بتشكلها في وصفة عروضية جديدة جاهزة. وذلك غير ممكن أصلا). وهذه القضية تتفرع إلى قضايا صغرى منها:
- الالتزام بقواعد العروض مقابل خرقها، حيث التزمت حركة الشعر الحر بعض القواعد الشكلية الضابطة للأوزان والقوافي وكسرت بالمقابل صورة ذلك النظام، ورغم نعت بعض النقاد هذا التكسير بالفوضى فإن الكاتب يرى في الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة مقومات نظام آخر، إلا أنه نظام داخلي، ينبع من داخل القصيدة، وينقل شعور الشاعر وليس تصورا خارجيا مفروضا عليه.
- خارج النص وداخل النص حيث للقصيدة نظام داخلي تمثله الظواهر المنبثقة عن بنية داخلية تشكل البنية العميقة للنص، أما خارج النص فكل المؤثرات والعوامل المشكلة لمرجعيته الثقافية والاجتماعية والفنية، ومنها يستمد الشاعر تصوره للإيقاع كبنية سطحية تنبثق مما هو جاهز، كالنظام العروضي المستلهم من القصيدة العمودية القديمة.
- التجديد مقابل التقليد حيث التجديد استلهام روح العصرحين يستنفر الشاعر كل طاقته الانفعالية في شكل دفقات شعورية تنعكس في صورة التعبير في شكل أسطر أو جمل شعرية. أما التقليد فاستنساخ لبنى تعبيرية وقيم جمالية تتسم بالجمود والثبات وكأنها خارجة عن الزمن.
- التساوق بين الشكل والمضمون، إذ كلاهما يستلزم الآخر في خصوصية عناصره، وإذن التجديد في المضمون يقتضي التجديد في الشكل.
ويتضح من خلال هذه القضايا الصغرى أن الكاتب يفسر تطور البنية الإيقاعية بالاستناد إلى التفعيلة كعنصر جوهري للإيقاع يتشكل في امتدادات زمنية ومكانية تتنوع بين البيت والسطر والجملة الشعرية بحسب الدفقة الشعورية ومقتضيات التعبير.
الإطار المرجعي
قضية التجديد في موسيقى الشعر من القضايا التي أثارت الجدل بين المهتمين منذ بداية القرن العشرين، ويمكن أن نرد إطارها المرجعي إلى:
- إطار تاريخي، حيث تناول الكاتب القضية المطروحة من زاوية تاريخية (تطور البنية الموسيقية للقصيدة بعد الحرب العالمية الثانية) لرصد مراحل تطور موسيقى الشعر الجديد ومظاهرها.
- إطار ثقافي غربي، حيث استند التجديد إلى جماليات القصيدة الغربية التي اتخذها الشعراء العرب نموذجا بذريعة ثقافية محكومة بالتبعية لما اعتبروه متقدما ومتجددا.
- علم النفس حيث استدعى الكاتب في تفسير التجديد في موسيقى الشعر العامل النفسي بحديثه عن الدفقة الشعورية وطبيعة الشعور الذي تتحرك به النفس، وعلاقته بصورة التعبير، الذي هو ملك للشعور وتابع له.
إن هذه المرجعيات تتضافر في النص لتشكل موقفا نقديا يحكم نظر الكاتب إلى أحد أهم مقومات الشعر العربي قديمه وحديثه وأكثرها إثارة للجدل بسب أبعادها المعقدة. وركز على العامل النفسي مجسدا في ضرورات التعبير المرتهن إلى كتلة الدفقة الشعورية لتفسير تطور النظام الموسيقي للشعر الجديد، من التفعيلة والسطر كأساس لهذا النظام إلى الجملة الشعرية.
طرائق العرض
أسلوب النص علمي يتمثل في طابعه التفسيري والتحليلي والنقدي؛ فهو يتناول قضية تطور موسيقى الشعر العربي، ويبحث تجليات هذا التطور، ويعالج عوامله النفسية ومظاهره الجمالية. والتفسير من أبرز وسائل الاستدلال في النص، ويقوم على طرائق عديدة منها: التعريف (تعريف مفاهيم البيت الشعري ـ السطر الشعري ـ الجملة الشعرية..)، وإظهار شكلها وحجمها ووظيفتها الجمالية وخصائص كل منها. والوصف (وصف مظاهر النظام الموسيقي للشعر العربي وخصائصه)، والسرد (سرد مراحل تطور البنية الإيقاعية)، والتوارد (مقارنة تجليات الظاهرة الإيقاعية للشعر الحديث في البيت والسطر والجملة الشعرية).
وغاية الكاتب من أساليب التفسير هذه إقناعنا بموقفه النقدي وإضفاء طابع العمق العلمي على دراسته للظاهرة. وقد اعتمد الكاتب في معالجة قضية النص طريقة استنباطية تقوم على بناء المقدمات وتقديم الأدلة واستخلاص النتائج، فبدأ، في سياق حديثه عن جماليات موسيقى الشعر، بمقدمة نظرية عامة عن مظاهر البنية الإيقاعية في الشعر العربي القديم والحديث يؤكد فيها على النظام كسمة جوهرية في الأعمال الفنية، ثم يستدل له ويقرره في النهاية. وكذلك يفعل في كل محور، حيث يعرف الظاهرة، ثم يتتبع تفاصيلها فيرصد تطورها وعوامله وطبيعة تشكلها مقارنا بينها وبين أخرى، لينتهى إلى استخلاص معالم التشكيل الموسيقي الجديد المحكوم بمدى الدفقة الشعورية التي ضاق بها السطر واتسعت لها الجملة الشعرية الأرحب مسافة. ولا شك أن الوظيفة البنيوية لهذه الطريقة تكمن في ملاءمتها لطبيعة الموضوع كظاهرة جمالية متطورة تؤول تجلياتها إلى عوامل مجردة تتعلق بطبيعة المضمون والشكل والعلاقة الجدلية بينهما.
تركيب وتقويم
سعى الكاتب من خلال هذا النص إلى إيصال رسالة أساسية هي أن النظام الموسيقي للقصيدة العربية غير ثابت ولا جامد، بل هو قيمة جمالية وموسيقية متطورة بتطور العوامل النفسية المتحكمة في تجربة الشاعر وتجلياتها التعبيرية.. من هنا كان أساس الإيقاع في الشعر الحديث قائما على تفعيلة يتغير مداها الزمني وتوالي عددها فتتجلى نصيا بيتا أو سطرا أو جملة شعرية، ويبرر الناقد مشروعية اعتماد التفعيلة كأساس للنظام الموسيقي في الشعر الجديد بكونها تجسد ضرورات التعبير ومقتضيات الشعور. ويبدو أن أثر الجانب النفسي واضح في مرجعية الناقد، إذ فسر الظاهرة الإيقاعية تفسيرا سيكولوجيا وجماليا، ينطلق من أهمية العامل النفسي / الشعوري، وعلاقته بالتعبير في تشكيل الصورة الموسيقية للقصيدة الشعرية.
ويتقاطع الموقف النقدي في النص مع موقف محمد النويهي في معالجة نفس الموضوع (المكون الموسيقي) بمنطلقات متقاربة، ولكنهما يختلفان في قول عز الدين إسماعيل بجوهرية التفعيلة في أي نظام موسيقي سواء أكان البيت التقليدي أو السطر أو الجملة الشعرية. أما النويهي فيذهب إلى أن النظام الموسيقي انطلاق يقوم على تنويع الإيقاع بحسب المضمون الفكري والعاطفي. قد لا يصل إلى درجة التخلص تماما من أي ضابط وزني. لتتأكد فرضيتنا التي انطلقنا منها والتي تربط تكسير البنية الإيقاعية القديمة داخل قصيدة التفعيلة بمستلزمات شعورية وتعبيرية.