سؤال الذات (نموذج شعري) – تحليل قصيدة 'إلى دودة' لميخائيل نعيمة
إشكالية القراءة
ظهرت حركة سؤال الذات في العالم العربي مطلع القرن العشرين نتيجة عوامل اجتماعية (ظهور الطبقة البورجوازية الصغيرة)، وسياسية (الاستعمار وضعف الطبقة السياسية..)، وفكرية (تطلع الجيل الجديد على التجديد)، وثقافية (التبشير بقيم جديدة تعيد الاعتبار إلى الفرد وتستلهم الآداب الأجنبية، خاصة الفرنسية والانجليزية). كما جاءت تعبيرا عن رد فعل حُيال الحركة الإحيائية المزدهرة وخطها التقليدي. ومن سمات خطاب سؤال الذات: الالتفات إلى الوجدان، والاهتمام بالطبيعة، وتطوير وظائف مكونات العمل الأبي لتكثيف نسقه الداخلي، واعتبار الشعر فيضا تلقائيا للعواطف، والخيال مرتعا للصورة الفنية، والاعتداد بالتجربة الذاتية في صياغة رؤية للحياة والقيم والجمال. ومرجع هذه السمات شيء من التصوف العربي وتعاليم المسيحية، والنزعات الإنسانية في الأدب الغربي، خاصة دعوة الذاتيين إلى المحبة والحرية، وثورتهم الوجدانية على التقاليد الأدبية والاجتماعية والدينية، وتضخيم ظاهرة الغربة وعوالم الحزن والاكتئاب، والحلم بعوالم مثالية كامنة في نقاء الطبيعة وامرأة ملاك.
والرابطة القلمية واحدة من حركات سؤال الذات، وهي جمعية أدبية أسسها الأدباء العرب المهاجرون في نيويورك عام 1924 برئاسة جبران خليل جبران، وكان ميخائيل نعيمة مستشارا لها، وإيليا أبو ماضي أمينا. استمر نشاطها عشرة أعوام. ثم توقف بسبب وفاة مؤسسها وتفرق أعضائها. بنى شعراء الرابطة القلمية روحا جديدة في الأدب العربي، فكان أدبهم صورة للمشكلات الإنسانية، والتأملات الفلسفية، وثورة على المعايير الكلاسيكية/ ومخزنا لثقافة واسعة، ونزعات روحانية عميقة. لقد سعى روادها إلى البحث عن معنىً جديد للحياة في ظل غربة مزدوجة بحثا تجسد في رفض القديم والتجديد الشعري في المضمون وطرائق التعبير. ومن أعلامها جبران خليل جبران، ونسيب عريضة، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة فيلسوف الرابطة (1889 – 1989)، تأثر بأدب التصوف العربي، الشعر الأنجليزي (ووردز ورث، وكيتس، وكولريدج، وتشيلي) والروسي (تشيكوف). له مؤلفات في المسرح والقصة والنقد والشعر. منها كتاب نقدي بعنوان (الغربال) وديوان (همس الجفون) ومنه أُخذ النص. فما هي مضامين هذه القصيدة ؟ وما خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد مثلت خطاب سؤال الذات ؟
فرضيات القراءة
عنوان النص تطلع إلى التمثل بحال الدودة، لأنها تملك ما لا يملكه الشاعر، تملك اللامبالاة فلا تفكر في ظواهر الحياة. واستنادا إلى مشيرات نصية في الأبيات 2ء7ء12 يبدو الشاعر حائرا بين الشك واليقين، متسائلا عن جدوى الوجود وماهيته. مما يعكس مضمونا جديدا ينأى عن الأغراض القديمة ويغرق في تأمل وجداني متفلسف لكنه الحياة رغم انشداد هندسة النص إلى الإيقاع التقليدي المتناظر الشطرين. لذلك نفترض أن الشاعر ينقل تجربة ذاتية إلى المتلقي تعكس الحيرة والشك وتدعو إلى الاتعاظ بحال الدودة التي لا ترى في الحياة إلا وجودا بسيطا. فهل استطاع الشاعر أن يصب انفعالاته وتأملاته في صياغة جديدة.
اكتشاف المعنى وتكثيفه
في النص أربع تمفصلات دلالية كبرى نعرضها كالآتي:
- الأبيات 1 – 8: مقابلة الشاعر حاله بحال الدودة، فهو ضعيف مضطرب الأحوال، متقلب بين الشك والإيمان، يجري نحو النهاية متعثرا يائسا، والدودة مطمئنة إلى حالها تنعم بالسكينة والهدوء.
- الأبيات 9 – 15: تطلع الشاعر إلى سكينة الإيمان والفطرة وهدوئهما، ونفوره من وساوس الفكر ومتاعب الوجدان.
- الأبيات 16 – 18: معاناة الشاعر بين حال القلب (التسليم) وصوت العقل العنيد ( الشك) معاناة يصرفها في التساؤل عن أسرار تساؤلا لا يجد له جوابا.
- تأكيد الشاعر تساوي المخلوقات في المرتبة ما دام مصيرها واحد، وإن كانت مختلفة في المظاهر.
لعل في استدعاء الشاعر للدودة ومناجاتها بيانا لماهية الذات عنده، فهي بؤرة التجارب الحياتية، ومصدر التأمل في الحياة والطبيعة والكون، إنها محك لطرح أعمق الأسئلة الوجودية والفلسفية. ومن ثم يتضح أن موقف الشاعر النظر إلى مختلف الكائنات الحية من منظور وحدة الوجود، وهي فكرة فلسفية أكد عليها الفيلسوف الألماني هيجل.
التحليل
يتوزع معجم النص على حقلين دلاليين: حقل الذات (حال الشاعر)، وحقل الطبيعة (حال الدودة)
حقل الذات | حقل الطبيعة |
أجري – جسمي الفاني – نعشي وأكفاني – عمري الفاني – أحزاني – متعثرا – أجتاز – ألاقي – إيماني – وجداني – أزحف – عيشي – جاهك – عمري – راكضا – أضناني – مستسلما – آمالي – أشباحي .. | تدبين – دبيبك – أنت عمياء – أُختاه – ألوان – أشكال … |
نلاحظ هيمنة ألفاظ حقل ذات الشاعر، وهذا راجع إلى التركيز على تجربة ذاتيه متماهىة وجوديا مع حال الدودة. والمواد المعجمية متداولة مألوفة، ومنبثقة من ذات الشاعر وليست مستوحاة من ذاكرته. وقد اتسم معجم النص ببعد فلسفي يعكس الصراع الداخلي لدى الشاعر (الشك في جدوى الحضارة الصناعية الحديثة – الإيمان – بوجود طبيعي للإنسان مغيب تحتضنه الطبيعة\ الدودة). فالمعجم إذن وليد التجربة، وهو مكون يعمل الشاعر من خلاله على كشف هواجس ذاته المترنحة بفعل ما طرأ عليها مما غير سيرها الطبيعي.
القصيدة من بحر الطويل بقافية وروي موحدين ومطلع مصرع مما يعكس استمرار الولاء للشكل الموسيقي القديم. وهيمنة صوت الياء الواصلة لحركة حرف الروي توفر جرسا موسيقيا تدعمه حركة الكسرة لتجسيد انكسار الذات وهي تتأمل مظاهر الطبيعة وتبثها قلقها وحزنها العميق على غياب الاطمئنان عن الذات وحضوره في الطبيعة رغم كون الذات والطبيعة يخضعان لنفس مبدأ الوجود. والجهر والغنة في صوت الروي [ن] يضفيان على القصيدة لحن حزن وشجن يرين على نفسية الشاعر وهو يقارن حاله الملخبط بحال الدودة الطبيعي. وتتشكل الموسيقى الداخلية للنص من بعض الظواهر الإيقاعية كالتوازي ” لك الأرض مهد والسماء مظلة ” ب 10 والتكرار (تدبين – دب / وفي كل يوم – وفي كل يوم / ضاقتا – تضيقا…)، وهذا التوازي والتكرار يلائم تجربة الشاعر الوجدانية الحبلى بالتناقضات. ويحقق دلالة التناظر بين حالي الشاعر والدودة.
بنى الشاعر صوره على آليات التصوير البيانية ومن أمثلتها: ” تدبين دب الوهن في جسمي – كنت قصيدا كاملا – أنت عمياء يقودك مبصر ” صور قائمة على المشابهة تنقل إحساس الشاعر بالضعف والسقوط والاستسلام أمام حقيقة الحياة التي استخلصها من الدودة التي تتمثل حقيقة الوجود الغائبة على المبصرين (الوجود الكامل الناضج). و“عبثث كف الزمان ببنياني”، “أترك أحزاني تكفن أحزاني “، ”فكر عنيد يجوب الأرض والجو والسماء” استعارات تجسد المعاني المجردة التي تعكس حالة الشاعر المأساوية، وهي أيضا قائمة على المشابهة وطاقتها الإيحائية أوسع من طاقة التشبيهات السالفة ووظيفتها شحن النص بكل أجواء التوتر الذي يخنق الذات. و”أبنى قصورا من هباء” كناية تقوم على علاقة المجاورة، وتدل على عبث الشاعر. ورغم جزئية هذه الصور واعتمادها على قواعد التمثيل البياني التقليدي إلا أنها ليست وصفية تزيينية، بل تعبيرية تخدم تجربة الشاعر، وتنقل أحاسيسه الذاتية وتساهم في بلورة رؤيته الوجودية.
لا يعدم النص إيحاء أخرج الطبيعة من إطارها الجمالي المستنسخ من الذاكرة الشعرية القديمة إلى دلالات تحولت معها إلى سجن للفكر. والمعاني الإيحائية كثيرة في النص(عمياء – مبصر) لفظتان توحيان بمعنى الجبر والاختيار في الحياة.
الشعراء الوجدانيون عبروا بالصور ووجهوها في اتجاهين؛ أولهما أُريد به الحد من تسلط التراث على أخيلة الشعراء، وثانيهما ربط هذه الأخيلة بآفاق التجربة الذاتية. من هنا نستنتج أن الشاعر، وإن انطلق من الأساليب البيانية التقليدية إلا أنه اعتمد خيالا جانحا لاقتناص المعاني الكفيلة بنقل تجربته الحياتية من خلال تأمل حال دودة.
حضور ضمير المتكلم يوحي بالطابع الذاتي والوجداني لمعاني النص، يعضده الأسلوب الخبري الذي يوجه وظيفة اللغة نحو الانفعال المرتبط بالذات في بعدها الوجداني والنفسي. وتعكس أفعال الحركة: (تدبين – أجري – أجتاز – راكضا – يقودك – أمشي – متعثرا – أزحف – يجوب…) رصد الشاعر لحركة الطبيعة من حوله رغبة في تجاوز حالة موت الذات بسبب اقتراب أجلها وتفشي المرض فيها. والأسماء الدالة على الوجدان: (آمالي – أحزاني – إيماني – أحزاني – شكي…) وظيفتها نقل حركة الذات المتماهىة مع الطبيعة، وكشف تناقضاتها وقلقها الوجودي.
وقد تقابلت معاني النص وفق منطق التضاد الذي تتجلى مظاهره في ما يلي:
- التضاد الخارجي : بين الشاعر والدودة حيث حركته السريعة الحائرة مضادة لحركتها البطيئة المليئة بالعبر.
- التضاد الداخلي: بين الشاعر ونفسه، بين همه الوجداني وتطلعه الوجودي.
ويتضح أن التضاد الداخلي هو البنية العميقة للنص، فهناك ذات متشظية تتناسل في بناء موحد الموضوع والإيقاع، لكون النص بؤرة تتوحد فيها المتناقضات، فالقصيدة عالم فني يعوض عن النقص الشامل في حياة الشاعر، إنها بؤرة التحولات في رحلة ذات الشاعر من الذات غير الطبيعية إلى النص.
التركيب والتقويم
من خلال تحليلنا لهذه القصيدة، يتبين لنا أنها مثلت خطاب سؤال الذات أو ما يعرف بالشعر أو الخطاب الرومانسي خير تمثيل نظرا لالتزامها بعدة خصائص ومميزات منها:
- حضور الذات في أبعادها الوجدانية والفكرية بشكل جعل منها بؤرة لطرح الأسئلة الوجودية كانت الطبيعة محكا لاختبارها.
- تعبير القصيدة عن المأزق الوجداني للذات بين المادة والروح، بين العقل والإيمان، بين العاطفة والفكر.
- الشعور بالكآبة والحزن والضياع في حياة اجتماعية وإنسانية مليئة بالتناقضات، والحس المأساوي، والقلق الوجودي، والتطلع إلى الطمأنينة والتحرر من سجن الفكر وأسئلته المتقدة.
- للطبيعة وجود مثالي في أبسط تمظهراتها (دودة) لما تختزله من دلالات وجودية، فكأن الذات لا تنكشف حقائقها إلا عبر تأمل الطبيعة.
وقد عبر الشاعر عن هذه المقصدية الفلسفية بأدوات فنية ظلت أقرب إلى التقليد منها إلى التجديد، وذلك رغم بوجدانية لغتها ووحدة بنائها وموضوعها ووظيفة الصورة الشعرية فيها المرتبطة بحركة الذات.
وعلى مستوى الشكل، أثمر هذا التيار مقومات ومميزات مكتملة وناضجة، لكن تألب التقليديين ورِدة بعض المجددين وسلطة النقد المحافظ وتماسك الوجود العربي التقليدي والانحباس داخل الذات السلبية القانعة واليائسة والمتألمة والمستسلمة والحالمة الخجولة، جعل من حركة سؤال الذات لا تساير المد القومي الثائر الذي عاشت في كنفه، فانتهت التجربة إلى الاضمحلال.