المجتمع المدني - تحليل نص 'المرأة والمجتمع المدني' لعائشة بلعربي
مدخل مفاهيمي
المجتمع المدني فكرة موجودة مع الإنسان منذ البداية باعتباره كائنا اجتماعيا ينسج علاقات منظمة داخل تجمع بشري ما تضمن للفرد والجماعة اعتبارات معينة . وقد عرف الحديث عن المجتمع المدني تطورات كثيرة فهو، بحسب صياغاته الاولى، كل مجتمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) الى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي مع أطراف يتقنون ممارسة السياسة. ولعل أرسطو أول من دعا إلى تكوين مجتمع سياسي نخبوي يحفظ العدالة والمساواة، غير أن مفهوم المجتمع المدني تبلور بشكل مضبوط وواضح بعد الثورة الفرنسية مع عصر التنوير الأوربي.
بدأ النقاش حول بنية المجتمع المدني ووظائفه مع هيجل في القرن التاسع عشر الذي وضع المجتمع المدني بين الدولة (الحكومة) والمجتمع التجاري – الاقتصادي سعيا منه لرفع قدرة المجتمع على التنظيم والتوازن في واقع تتراكم فيه الأرباح وتتضارب المصالح، ثم أثار غرامشي مفهوم المثقف العضوي ودوره في عملية تشكيل الرأي العام والتأثير على القرار مما يستدعي تشكيل منظمات اجتماعية ومهنية وثقافية وسياسية تضبط التفاعل الحيوي بين البنيات الفوقية والتحتية بشكل منسجم يحصر التنافس والصراع في إطاره السلمي.
مفهوم المجتمع المدني إذن ولد وترعرع في كنف فكر ديموقراطي يعترف بالحريات ويتبنى مبادئ حقوق الإنسان.
يعرف المجتمع المدني بأنه جملة المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة وعن أرباح الشركات في القطاع الخاص، إنه مؤسسات مدنية لا تمارس السطة ولا تستهدف الربح، بل تشارك في صناعة القرار خارج المؤسسات السياسية الرسمية، ولها غايات نقابية وأغراض ثقافية ووظائف اجتماعية، وهي تنظيمات تطوعية تملأ المجال العام بين المجتمع والدولة لتحقيق مصالح الفئات التي تمثلها [ المرأة، الكتّاب، التلاميذ، أنصار البيئة، دعاة الشفافية، حماية المستهلكين، رعاية الشباب، حقوق الإنسان …] في إطار احترام معايير القانون وقيم التراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف والتزام الحوار الهادئ البناء والمرونة والشفافية والواقعية لضمان فاعليتها.
يتطلب بناء مجتمع مدني قاعدة مشتركة بين مكوناته تشكل جوهر الثقافة المجتمعية التي تقود إلى الانسجام والتفاعل الإيجابي، ومن ضمنها: تبني قيم الديموقراطية والتضامن والتنافس الشريف والعمل في إطار الشرعية والشفافية وسلوك الموطنة والاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته في الاعتقاد والتعبير والتجمع والتنظيم والاختلاف …
سياق النص
يندرج هذا النص في سياق الحراك السياسي والثقافي الذي فرض على الفاعلين المغاربة تدبير مرحلة الانتقال الديموقراطي التي بدأت منذ أواخر القرن الماضي عبر تجذير حقيقي لمكونات المجتمع المدني وإرساء فعلي لثقافة جديدة موازية ومؤطرة لعمليات التحول، وهذا لا يعني أن المجتمع المغربي لم يعرف مؤسسات المجتمع المدني إلا في السياق التاريخي الذي حددناه أعلاه بقدر ما يعني أن هذه المؤسسات بدأت تمارس دورها الحقيقي مؤخرا بفعل إكراهات التنمية وتحديات الواقع الضاغطة وثقافة العولمة الزاحفة، وفي هذا الإطار أدى كفاح الجمعيات النسائية المغربية بدعم من فعاليات سياسية ومنظمات نسائية دولية إلى إعادة النظر في وضع المرأة في المجتمع المغربي، وتحسين هذا الوضع، وتغيير الكثير من القوانين أو تعديلها من أجل ذلك.
ملاحظة النص
يطرح النص إشكالية إدراج المرأة في سياق التنمية لتثبيت أسس الديموقراطية التي يعيقها غياب عنصر حيوي أساسي في المجتمع أو تهميشه أو تقليص فاعليته وحضوره في صياغة المشهد التنموي بكل أبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية، وذاك ما شكل جوهر انشغالات منظمات المرأة باعتبارها مكونا من مكونات المجتمع المدني.
يمكن اختزال أبعاد الإشكالية المطروحة في النص في فرضيتين أساسيتين هما:
- دور المرأة أساسي في تطور المجتمع، ولا يمكنها أن تؤدي دورها إلا بضمان حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية .
- لا تزال المرأة لا تمارس دورها كاملا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي تناضل لأجل ذلك، وما تمارسه فوفق تصور رجولي في الغالب.
يربط عنوان النص بين المرأة والمجتمع المدني، وهو ربط ضروري طالما أن وضع المرأة يحتاج إلى دعم كل مكونات المجتمع المدني للنهوض به سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وقانونيا.
فهم النص
يناقش النص قضايا المرأة المغربية في سياق ارتباطاتها بالمتغيرات المحلية والدولية التي أكسبتها وضعا جديدا وأدوارا مهمة، ويمكن تحديد مجالات هذه المناقشة في:
1) اعتبار الباحثين المغاربة أن المجتمع المدني بنية اجتماعية جديدة تبلورت نظريا داخل الخطاب السوسيوء سياسي المغربي في الثمانينيات بناء على متغيرات سياسية واقتصادية وثقافية اكتسحت الساحة المغربية.
2) توافر عوامل كثيرة أسهمت في تطوير المجتمع المدني في المغرب من ضمنها:
- الانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب خلال القرن العشرين ( دمقرطة المؤسسات – تطور الحركة من أجل حقوق الإنسان ).
- دور التنظيمات العالمية، وخاصة وكالات الأمم المتحدة في إطلاق الحركات الجمعوية، بما فيها الحركة النسائية.
3) إسهام التنظيمات العالمية عبر اللقاأت والمؤتمرات وما تسفر عنه من تصريحات واتفاقيات وإعلانات دولية في مناقشة قضايا النساء، ومن أهم هذه اللقاأت : مؤتمر ريو 92، وفيينا 93، وكوبنهاكن 95، وبكين 95، والتي نصت على ألا وجود لتنمية أو ديموقراطية أو إقرار لحقوق الإنسان دون إسهام فعلي للنساء، وعلى وجوب إلغاء كل أشكال التمييز تجاههن.
4) الدور المركزي للمجتمع المدني عموما، والجمعيات النسائية خصوصا في تطوير المجتمع، إذ بتنظيمه في مجموعات نسقية أو غير نسقية صار ضامنا للديموقراطية والتنمية، ومؤشرا على رفع الوصاية عن حركات حقوق الإنسان والتنظيمات المدنية المسهمة في التنمية والمراقبة لسلوك المؤسسة الرسمية الباحثة عن الشرعية في مجتمع ديموقراطي ودولة القانون.
5) تصور الحركات النسائية للحداثة تصور خاص يتمثل في تنظيم الجموع النسائية وتعبئتها لقيادة أعمال تنموية متنوعة تسهم في انطلاقهن وتفتحهن الشخصي، ويشمل أيضا مطالب سياسية واجتماعية ومدنية وأسرية تتجاوز المنطق المحلي إلى المعيار العالمي.
6) قيام الحركات النسائية بدور اقتصادي بالغ الأهمية يتجلى في إيجاد السبل الأكثر فاعلية لإدماج المرأة في التنمية وضمان إسهامها الفعلي في سيرورتها، عبر مساعدتهن في إنشاء فضاء اقتصادي مستقل وإتاحة الفرصة لهن لإطلاق المبادرات الذاتية وخلق مشاريع مدرة للربح والتكتل في تعاونيات، وتوفير الوسائل الكفيلة بتنمية مداخيلهن وتحسين ظروف عيشهن، غير أن معيقات كثيرة تعترض مسعى الحركات النسائية أهمها صعوبة إنجاز مشاريع تنموية كبرى تقودها النساء طالما أن تخطيطها وتمويلها ظل حكرا على فاعلين رجال محليين أو دوليين، وهو رهان تأخذه هذه الحركات بعين الاعتبار في المستقبل.
تحليل النص
1) في النص جهاز اصطلاحي يتداخل فيه السياسي بالجمعوي بالاقتصادي، والجدول الآتي يرصد حجم انتشار هذه الحقول عبر الممتد النصي:
الحقل الاقتصادي | التنمية، المشاريع، نمط اقتصادي، إدماج في التنمية، وسائل العيش، تحسين مداخيل، مدرة للربح، المبادرة الذاتية، فضاء اقتصادي، المخططين. |
الحقل السياسي | الخطاب السياسي، الانفتاح، دمقرطة المؤسسات، أسئلة الديوقراطية، التصريحات، الاتفاقيات الدولية، الشرعية، الاستقلال، الحداثة، دولة القانون، الحقوق السياسية، المؤتمرات، تعبئة، قيادة. |
الحقل الجمعوي | المجتمع المدني، الجمعيات النسائية، التنظيمات العالمية، الحركة الجمعوية، مجموعات نسقية، المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، الحركة النسائية، الجموع النسائية، التعاونيات، فاعليات أخرى، حركة حقوق الإنسان، المؤسسات، المؤتمرات، تعبئة، قيادة. |
والملاحظ أن الحقلين الجمعوي والسياسي أكثر هيمنة على النص لتركيزه على دور الجمعيات النسائية كمكون من مكونات المجتمع المدني في تثبيت أسس الديموقراطية وإقرار حقوق المرأة على كل الواجهات في ظل مجتمع يعيد تشكيل مكوناته الحيوية وفق تصور ديموقراطي وسياق دولي تسعى فيه المنظمات المتعددة إلى دعم حضور المرأة في المجتمع ومشاركتها في التنمية لتحقق كيانها الاقتصادي الخاص وتتخلص من سلبيتها.
2) في النص وضعية تواصلية خاصة تجعل الخطاب متجها إلى مرسل إليه متعدد، منه الحركات النسائية بصفة خاصة، والمرأة بشكل عام، والمجتمع المدني والسياسيين والاقتصاديين والمنتظم الدولي، والمتلقي غير المحدد بشكل أعم، طالما أن النص يراهن على خلق وعي بمطالب المرأة واستنفار الدعم اللازم لإعادة الاعتبار لوضعها.
3) جمع النص بين وظائف متعددة منها الأخبار والتفسير والاقناع، وقد توالت هذه الوظائف بشكل تسلسلي يوازي تطور معالجة الإشكالية في النص بدأ بالأخبار فالتفسير وانتهاء بالمعالجة والاستنتاج، والخطاب الحجاجي أكثربروزا في النص طالما أن الإخباروالتفسير يستبطنان قصدا حجاجيا ويحيلان على حقائق من التاريخ والواقع تدعم العلاقات المنطقية بين الوحدات الفكرية.
4) استخدمت الكاتبة في بناء النص نظام الفقرات القصيرة، والجمل المتوسطة المربوطة بإحكام بروابط شكلية ومنطقية تحقق الانسجام الدلالي للمعروض الفكري، منها: أدوات التوكيد وألفاظه ( لقد – إن – التكرار – التخصيص) والعطف (ثم – الواو….) وعلاقات السببية والتفسيرية والاستنتاج والاستدراك والتسلسل الزمني.
5) استندت الكاتبة في النص إلى خطة حجاجية واضحة ومتنوعة مبنية على استدلالات تاريخية ومنطقية وشواهد تبين الخلل الحاصل في وضع المرأة داخل المجتمع المغربي وتحاول تصحيحه. ويمكن التمثيل لبنية الاستدلال والاستشهاد من النص بالاتي:
- الحجج التاريخية: تعرض المرأة للا قصاء الاجتماعي عبر التاريخ – كفاح منظمات نسائية بدعم من منظمات دولية لإعادة الاعتبار لها ( المؤتمرات – الإعلانات والتصريحات – الاتفاقيات الدولية ).
- الحجج المنطقية: لا يمكن قيام تنمية أو ديمقراطية أو إقرار لحقوق الإنسان بدون إشراك المرأة – تأهيل المرأة يمر عبر تحميلها مسئولية قيادة التنمية بموازاة مع الرجل.
- الشواهد: وضع المرأة في الجتمع المغربي وتطور مستويات حضورها في التنمية – العراقيل التي تحول دون قيامها بدورها كاملا.
6) يتسم أسلوب النص بالتقريرية لأنه منشغل ببناء خطاب استدلالي ذي وظيفة إقناعية يروم تحديد دور المرأة داخل المجتمع ومؤسساته المدنية، وهو خطاب يستند إلى أسلوب منطقي مشبع بنفس تتظيري لما يمكن أن تقوم به المرأة بمساعدة المتدخلين من الفعاليات المتعددة، كما يستثمرمصطلحات تحيل إلى حقائق وتصورات من التاريخ والواقع والسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا.
7) تبث عائشه بلعربي رسالة خاصة إلى الملتقي مضمونها أن على المرأة أن تتبوأ مكانتها الصحيحة في المجتمع، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتحقيق تنمية مندمجة.
تركيب وتقويم
ناقش النص وضع المرأة الراهن في المجتمع المغربي ضمن فرضيتين تقتضيان تمتيع المرأة بحقوقها كاملة لتؤدي دورها في التنمية حتى تتجاوز حالة السلبية التي تسم حضورها في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وهو ماتراهن عليه مكونات المجتمع المدني وضمنه التنظمات النسائية. وقد اعتبرت عائشة بلعربي أن هاتين الفرضيتين تستلزمان بالضرورة خلق وجود اقتصادي مستقل للمرأة يضمن لها التخلص من وصاية الرجل، والخروج من حالة العدمية التي تعيق انطلاقها في أوراش التنمية بكل مستوياتها.
وقد حاولت الكاتبة الاستدلال على معالجتها لوضع المرأة في المغرب وما تضمنته من اقتراحات من مرجعيات متعددة صلبة بعضها من مقررات المنظمات الدولية وبعضها مما يفرضه واقع تجاوز حالة الجمود والميز الذي تعاني منه نساء المغرب، وقد عرضت تصوراتها في أسلوب تقريري ومنهجية علمية تقوم على تقديم الاطروحة ( تحريك المجتمع المدني لإدماج المرأة في التنمية كوجه للديمقراطية) ودحض الأطروحة النقيض ( أشكال التميزوالتهميش الموجه ضد المرأة) والانتهاء إلى تركيب يجزم بأن إدماج المرأة لا يزال مطلبا لم يتحقق بشكل كامل مادامت قطاعات من نساء في البادية لم يتغير وضعهن، أو أن التغير لم يوصل نساء الحواضر إلى مراكز القيادة، وعلى توظيف أساليب الإخبار والتفسير والتوكيد، واستثمار مصطلحات السياسة والاقتصاد والمجتمع.