شعر الوصف - مدخل مفاهيمي
مفهوم الوصف
الوصف نقل المشاهد والحالات، والتقاط المدركات كما تنعكس على عدسة الوعي ومرآة الانفعال، وتصوير لمختلف مظاهر الحياة في سكونها وتقلباتها، والطبيعة في تجلياتها وتحولاتها، إنه إعادة تركيب فني لما تنجذب إليه الحواس، وينطبع على المشاعر استحسانا واستهجانا واستئناسا واستيحاشا، وصياغة جديدة لجزيئاته الدالة داخل اللغة. وكل خطاب وصفي يستدعي واصفا وموصوفا وأداة للوصف (اللغة) ومرجعية قد تكون الحس أو الوجدان أو هما معا
الوصف غرض من أغرض الشعر العربي القديم والحديث على السواء، وموضوع أساسي من موضوعات القصيدة العمودية المتعددة الأغراض، ويطال كل ما تقع عليه الحواس وتنفعل به النفس من إنسان أو حيوان أوطبيعة أو مواقف أو أحداث أومظاهر حضارة أو غيرها، حتى إنه ليخترق حدود الأغراض الأخرى التي لا تعدو في نظر الكثير من الباحثين أن تكون وصفا بشكل ما.
أنواع الوصف
يبرز من بين أنواع الوصف المتعددة نوعان:
- نوع حسي: ينقل صورة الموصوف بأبعاده المادية، فهو محاكاة للواقع أو إعادة تشكيل لغوي جميل لهذه الصورة.
- نوعا وجداني رؤيوي يرصد صورة الموصوف من خلال انطباعاتها في نفس المبدع، وهو مجال خصبا للابتكار والتخيل والفيض العاطف.
شعر الوصف
شعر الوصف هو شعرٌ يقوم على وصف الأشياء والأشخاص لجعل القارئ يستحضرهم كما هم عليه في الحقيقة عندما يقرأ شعر الوصف.
الوصف ليس موضوعا قائما بذاته لأنه يتناول في المدح والرثاء والهجاء وغيرها من أغراض الشعر كالغزل ووصف الخيل والصحراء والليل والمطر الخ وسنواصل اليوم في شعر الوصف ونبدأ بوصف الخمر التي هي أم الكبائر أعاذنا الله من جميع المكروهات فضلا عن غيرها.
فالخمر لغة الستر ومنه سمي الخمار لستره للرأس وبعض الوجه ، ومنه سميت الخمر لمخامرتها للعقل لأنها تغطيه وتغيبه كما يفعل الخمار والستر بمن لبسهما وقد استعير هذا الاسم لما تخمر من نقيع التمر أو العنب) ثمرة شجرة الكرم(لأن من شرب من هذا النقيع ذهب عن حسه وإدراكه فسموها خمرا وقد كانت كثيرة الأنواع وقد وصفها العرب وتغنوا بها في أشعارهم على سبيل الحقيقة والمجاز لأنها مظهرا من مظاهر الفتوة والكرم والميسرة عندهم ومن الترف وقد جاء الإسلام وبين أن للخمر أضرارا بالغة على كل شارب ،وأنها تفتك بجسمه بعد ذهابها بعقله وقد جاء تحريمها متدرجا لحكمة لا يعلمها إلا المشرع وكان آخرها آية التحريم الجازمة : (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) 82، 83 من سورة المائدة.
ونبدأ وصف الخمر في الشعر الجاهلي ونبدأ بلبيد بن ربيعة العامري الصحابي المخضرم في وصفها زمن الجاهلية حيث يقول:
كِرامٌ إِذانابَ التِجـــــــــارُأَلِذَّةٌ ۩۩۩ مَخاريقُ لايَرجونَ للخَمرِواغِلا
إذاشَرِبواصَدّوآلعَواذِلَ عَنهُمُ ۩۩۩ وَكانوا قَديماًيُسكِتــــونَ ا لعَواذِلا
وقال عنترة بن شداد العبسي من الشعراء الستة :
كَم لَيلَةٍ قد قَطَعــــــنافيك صالِح ۩۩۩ رَغيدَةٍ صَـــفوُها ما شابَهُ كَدَرُ
مَع فِتيَةٍ تَتَعاطى الكَأسَ مُترَعَةً ۩۩۩ مِن خَمرَةٍ كَلَهيبِ النارِتَزدَهِرُ
تُديرُها مِن بَناتِ العُربِ جارِيَةٌ ۩۩۩ رَشيقَةُ القَدِّ في أَجفــانِهاحَوَرُ
وللبيد رضي الله عنه فيها:
وَإِن طَرِبَ الرِجالُ بِشُربِخَمر ۩۩۩ وَغَيَّبَ رُشدَهُم خَمرُالدِنانِ
فَرُشدي لايُغَيِّــــــُهُ مُدام ۩۩۩ وَلاأُ صـــغي لِقَهقَهَةِ القَناني
فتراه يذكرها ويمتدحها ويذكر ساقيها في الأبيات الأولى في وصف قوم يغلون فيها ويبذلون أموالهم وفي هذه الأبيات نراه لا يهتم بشؤونها وحالاتها وأرهاصها التي تحدث لشاربها كما هو واضح.
يقول الملك الضليل المعروف بامرئ القيس بن حجر الكندي في الخمر يصفها:
أَحاراِبنُ عَمـــــروٍكَأَنّي خمر ۩۩۩ وَيَعدوعَلـــــى المَرءِ ما يأتَمِر
لاوَأَبيكَ اِبنَةَ العـــــــــــــامِرِ ۩۩۩ لايَدَّعي ا لقَـــــــومُ أَنّي أَفِر
تَميمُ ا بنُ مُرٍّوَأَشــــــــــياعُها ۩۩۩ وَكِنـــــدَةُ حَولي جَميعاً صُبُر
إِذارَكِبوآلخَــــــيلَ وَاِستَلأَموا ۩۩۩ تَحَـــرَّقَتِ الأَرض وَاليَوم قَر
ويقول أيضا في قصيدته التي مطلعها:
لِمَنِ الدِيارُغَشِـــــــيتُهابِسُحام ۩۩۩ فعَمايَتَين فَهُضبُ ذي أَقدامِ
الي أن يقول :
فَظَلِلتُ في دِمَنِ الدِيارِكَأَنَّني ۩۩۩ نَشوانُ باكِرَهٌ صَبوح مُدامِ
أنُفٍ كَلَون دَمِ ا لغَزال مُعَتَّقٍ ۩۩۩ مِن خَمرِعانَةَ أوكُرومِ شَبامِ
وَكَأَنَّ شارِبَهاأَصـــاب لسانه ۩۩۩ موم يُخــالِطُ جِسمَهُ بسَقامِ
وقد أبدع في وصف نوعيتها وعتقها ووصف ما تفعله بشاربها وهو بها خبير.
وفي وصف الخمر يقول كعب بن زهير الشاعر المخضرم:
مايَجمَعُ الشَوقُ إِن دارٌبِناشَحَطَت ۩۩۩ وَمِثلُها في تَداني الدارِمَهجورُ
نَشفى بِهاوَهي داءٌ لَوتُصاقِبُنا ۩۩۩ كمآِشتَفى بِعِيادِالخَمرِمَخمورُ
وهذا قريب من قول قيس بن الملوح صاحب بني عذرة حيث يقول وهو في العصر الأموي:
تداويت من ليلى بليلي من الهوى كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
وهذه الخنساء بنت عمرو بن الشريد تصف الخمر في رثاء أخيها فتقول:
لَقَدصَوَّتَ الناعي بِفَقدِأَخي النَدى ۩۩۩ نِداءً لَعَمري لا أَبـــــــالَك يُسمَعُ
فقُمتُ وَقَدكادَت لِرَوعَةِهُلكـــــِهِ ۩۩۩ وَفَزعَتِهِ نَفسي مِنَ الحُزن تَـتبَعُ
الَيهِ كَأَنّي حَوبَةً وَتَخَشّـــــــــُعاً ۩۩۩ أخوالخَمرِيَسموتارَةً ثُمّ يُصرَعُ
وهذا وصف دقيق لصاحب الخمر إذا شربها من نشوته يكون كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ونشربها فتتركنا ملوكا ۩۩۩ وأسدا ما ينهنهنا اللــقاء
لقد مررنا بنماذج من وصف الخمر عند الشعراء سواء من تشبيهها بحالة نفسية معينة ناتجة عن حدث معين كما في رثاء الخنساء لأخويها رضي الله عنها، أومن حيث هي خمر تشرب حقيقة أو ترتبط بزمن غض حلو كان الزمان فيه مساعدا لواصفها ،أو من حيث هي أمارة للفتوة عند الشعراء الجاهليين ، أو من حيث هي أمارة للكرم وبذل المال عند الاثرياء الأجواد من فتيان العرب في الجاهلية وكهولهم فهم يذكرون لفظة قوم ، واللتي تدل علي التذكير.
نتابع مع حسان بن ثابت رضي الله عنه مقطعا من همزيته يصف فيه الخمر ، حيث قال نصا
اذا مآلأشربات ذكرن يوما ۩۩۩ فهن لطيب الراح الفداء
ففي هذا المقطع من قصيدته تعرض لوصف الخمر ووصفها فأحسن ،وفضلها علي غيرها من الشراب من حيث التحديد ،لأنها كانت قبل الاسلام كذلك ،لكن موضو ع وصفها بقي تقليدا كالوقوف علي الاطلال وذكر الأظعان والبين الخ... كما تعرض فيها لوصف محبوبته وطيب ثغرها وما الي ذلك مما هو غرض من أغراض الشعر المتعارف عليه في الجاهلية والاسلام.
خصائص الوصف في نص شعري
- تركيزه على الأبعاد الدالة للموصوف وإيحاأتها وتأثيرها في الواصف
- اتكاؤه على اللغة التصويرية في نقل صورة الموصوف وطبيعة الانفعال به إلى المتلقي لخلق عوالم دلالية محيطة بالموصوف، مثيرة ومؤثرة ومتشابكة ومتناسقة.
- اختيار التوليفات الصوتية والتركيبية والإيقاعية المتناغمة مع شبكات الدلالة التي ينسجها الواصف وكمية الانفعال التي يبثها داخلها.