المباءة (عز الدين التازي) - قراءة توجيهية
مفهوم النص الموازي
اهتمت الدراسات الغربية بدراسة النص الموازي، بينما أغفلته الدراسات النقدية العربية الحديثة، ومن أهم النقاد والدارسين الغربيين الذين عمقوا البحث في هذا الجانب الهام الناقد الفرنسـي (جيرار جنيت)، ففي كتابه “عتبات”، فكك النص الموازي إلى: النص المحيط، والنص الفوقي. فقد جعـل العنوان في مقدمة فضاء النص المحيط، وإلى جانبه كل من العناوين الفرعية والداخلية للفصول والمقدمة، بالإضافة إلى الملاحظات التي يمكن للكاتب أن يشير إليها، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب، كالصورة المصاحبة للغلاف، أو كلمة الناشر على ظهر الغلاف أو مقطع معين من المحكي. والنص الموازي في الرواية ليس حلية أو زينة، بل هو خطاب مفكر فيه، وهو الشيء التي يُواجه المتلقي ويرسم انطباعاً أولياً عن النص، سرعان ما يتوسع أو يتقلص مع القراءة.
عتبة المؤلف
محمد عزالدين التازي من رواد رواية الطليعة في أدبنا المغربي المعاصر، وذلك بمجموعاته القصصية ورواياته التجريبية منذ فترة السبعينيات إلى يومنا هذا. ولد بمدينة فاس سنة 1948م، درس الابتدائي في المدرسة الأميرية ، إحدى مدارس الحركة الوطنية، والتحق بثانوية القرويين، فدرس الأدب القديم وعلوم اللغة،ودرس أيضا الثقافة الغربية وترجمات الأدب العالمي. نشر أول قصة قصيرة وبعض المقالات سنة1966م، وهو تلميذ بالثانوي. وتابع دراساته الجامعية بكلية الآداب بفاس، واستكمل فيها دراساته الأدبية الجامعية حتى حصل على درجة الدكتوراه في السرديات. وقد مارس التدريس بالتعليم الثانوي و كلف بتأطير الطلبة الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة بتطوان. وكان عضوا فعالا في اتحاد كتاب المغرب واتحاد الكتاب العرب بدمشق والمكتب التنفيذي لرابطة أدباء المغرب، وهيئة تحرير مجلة دفاتر الشمال، وهيئة تحرير سلسلة إبداعات شراع.
وقد كتب الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والمسرحية، كما كتب للأطفال. وقد ترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والإسبانية والهولندية والفلامانية والإنجليزية، وحاز على جائزة المغرب للكتاب سنة 1997م ، بعد أن حاز على جائزة فاس للثقافة والإعلام سنة 1996م ، أصدر مجموعات قصصية مثل : أوصال الأشجار المقطوعة 1975 – النداء بالأسماء1981م – منزل اليمام 1995 – يتعرى القلب 1998 – الشبابيك 2001 . وروايات ك: أبراج المدينة 1978 – رحيل البحر 1983 – المباءة 1988 – فوق القبورء تحت القمر 1989 – أيها الرائي 1990 – أيام الرماد 1994 – مغارات 1994 – مهاوي الحلم 2000 – ضحكة زرقاء 2000 . ومسرحيات مثل: المحاء 1995 – الغريب في الميناء 1995 . ودراسات نقدية : الكتابة الروائية في رفقة السلاح والقمر 1984 – السرد في روايات محمد زفزاف 1985 – الكاتب الخفي والكتابة المقنعة 1998 .
ومن سمات أعمال محمد عزالدين التازي السردية التجديد والانزياح وتكسير السرد التقليدي المألوف كما هو الشأن في مجموعاته القصصية: أوصال الشجر المقطوعة، والنداء بالأسماء، ويتعرى القلب، ورواياته مثل: أبراج المدينة، ورحيل البحر، المباءة، وأيها الرائي، ومغارات، إضافة إلى كتابات مسرحية تجريبية مثل: مسرحيته( المحاء) التي خص بها العدد الأول من مجلة فضاأت مغربية.
عتبة السياق الخارجي (ملابسات إنتاج النص)
ملابسات إنتاج نص “المباءة” في جملة السياقات التي خلفت الكتابة الروائية لدى التازي، ومنها يمكن اختزال:
- هوسه بالكتابة باعتبارها مغامرة لتخطي إحباطات الواقع، وتمثيل رهانات الذات وقدرتها على إعادة صياغة هذا الواقع ضمن تجربة متميزة وأفق رمزي غني بكل أشكال الاحتجاج والبناء والهدم والتمرد والخلق والإبداع.
- نظره إلى الرواية باعتبارها نقداً للعالم القائم بتمظهراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية رغبة في بناء عالم روائي بديل. فالكتابة الروائية هي محاولة لبناء عالَم متخيَّل على أنقاض عالَم واقعي أو عالم يكمن في الذاكرة. وهكذا فالتازي مقتنع بأن الرواية يجب أن تكتب سيرة الناس والأشياء، وسيرة المتخيلات.
تجنيس النص
أول ما يدلنا على أن النص رواية الميثاق الذي يبرمه الكاتب مع القارئ على أساس الثقة على غلاف الرواية، ناهيك عن كون بنيات النص ومحتوى المسرود تضعنا أمام عمل روائي واضح القسمات ، إضافة إلى تحديدات الكاتب النقدية ووجهات نظره في صناعة الرواية.
تحكي رواية “المباءة” حكاية مجنون يرعى قطيعاً من القطط يدعى قاسم الورداني، يكسب عيشه من خط شواهد القبور ، يسكن في غرفة من الغرف الملحقة بضريح الولي. مهووس مولع بالحروف والكلمات، يخطّها في شواهد القبور، ويرسمها على جسده، ويعتني بها مطبوعة على الصحف فيلتحف بها ويمشي عرياناً في الشوارع والأزقة. ومن خلال العلاقة بين هذا الخطّاط المجنون وفنّه يكشف التازي مقاربته النقدية في إنتاج الرواية الجيدة، اعتماداً على وحدة الفنون، واشتراكا مع بقية الفنانين، فالكاتب يشترك مع الخطّاط والرسّام والنحات والموسيقي، في خلق أشكال وهياكل جديدة من عناصر موجودة في الواقع، كما يشترك معهم في هوسهم بالفنّ، على الرغم من اختلاف الأداة التي يستخدمونها والمواد التي يوظّفونها في إبداعاتهم. ما يشير إلى أن النص رواية أيضا قدرة الكاتب على مزج الواقع بالخيال، وخلط الممكن بالمستحيل، وخلق فضاء روائي نصفه من عالمنا ونصفه الآخر من عوالم ليست مرئية، ورصد الرواية لواقع العلاقات الإنسانية والتحولات المجتمعية والصراعات الاجتماعية، وتشخيص الاختلالات والهواجس والتوقّعات، وتجسيد قلق الذات الكاتبة وتوترها، ورغبتها في بناء عالم روائي جديد، لا يستنسخ الواقع ، بل يحاول إعادة تشكيله بوسائط فنية في صورة حدس أو رمز أو حلم أو أسطورة. وتجري في فضاء هذا العالم الروائي أحداث بعضها حقيقي والآخر متخيل، وتتحرّك فيه شخصيات مُستعارة من التاريخ البعيد والقريب، تتساكن مع شخصيات وهمية؛ وتتعدد في هذا العالم الروائي أصواتُ وأزمنةُ وأحداث يتداخل بعضها في بعض. ويتولى الروائي صياغة هذا العالم بلغة شعرية تمتاز بالاقتصاد والتكثيف، وتستخدم الرمز والإشارة والصورة، وتصطبغ بمستويات متعددة متداخلة من التراثي والأدبي والشعري والشفوي والدارج، لا تقول كل شيء، بل تترك فراغات يستطيع عبرها القارئ أن يشارك في الإبداع عن طريق تفسير الأحلام وتأويل الرموز وملء الفراغات كل بطريقته الخاصة.
عتبة الغلاف
يغرق غلاف الرواية في لون داكن ينم عن كثير من الانسداد، وعن محاصرة كل ما من شأنه أن يخترق فضاء مغلقا عاريا من الشفافية والصفاء والضوء ، وعلى رأس الغلاف ينطبع اسم المؤلف بلون أبيض وهاج وكأنه يمثل القبس الهارب من عالم يكاد يكون مظلما قاتما، وتحته مباشرة يأتي العنوان بلون أصفر منسجما مع ما يدل عليه من اعتلال وشحوب ، ويتوسط فضاء الغلاف لوحة اختلطت في عمقها ألوان رمادية وخضراء وصفراء اختلاطا شكل تموجا يشي بالكثير من الحيرة والاضطراب ، هذا العالم المتموج من الألوان الباهتة يحيط ببناء قديم مغلق أبيض محاط بسور عال ، لا شيء فيه يدل على الحياة أو الانطلاق و الحرية. باب من قضبان حديدية متشابكة ، ونوافذ على شكل كوات صغيرة مغلقة بالحديد أو الخشب يختفي وراءها عالم غامض معتم موحش داكن لا يكشف عما وراءه من مجهول ، وأمام البيت خليط من ألوان كالسراب تنعكس عليها فتحات السور والبيت . وتشكيل البيت ومحيطه يوحيان بالسكون والموت والمحاصرة وزوابع الكآبة لا يطرد غياهبها إلا بياض ناصع للجير الذي طليت به الجدران، وهو بياض لا يقول شيئا غير فراغ لا منته ، يصعب فك لغزه تماما كما الحلم، غير أنه لا يخلو من الإحالة على عالم تطبعه القدسية والروحانية.
عتبة العنوان
رواية المباءة رواية فضاء موبوء بامتياز، تذكرنا برواية الطاعون لألبير كامو ، أو برواية المسخ لكافكا على مستوى التفاعل النصي والاشتقاق التناصي والحوار الروائي..
المباءة في اللغة اسم مكان على صيغة مفعل أضيفت إليها تاء التأنيث كمزبلة مثلا. وهي عبارة عن المنزل والمنزلة بصفة عامة؛ لأن الإنسان أو غيره يتبوأ فيهما مكانا ومستقرا متميزا، والمباءة أيضا تحمل الفعل والإقرار به، وهذا أصح في معلوم اللغة من غيره، لأن المنزل والمنزلة مرتبطان دلاليا بفعل مزيد هو” تبوأ” فيكون المتبوأ أدل على المكان ، والمباءة أوحى بما يدل على تحمل الفعل والاعتراف به، لكن نعت الكاتب لفاس بالمباءة يحسم الأمر ويعقده في نفس الوقت: “لقد أصبحت فاس مباءة كلها” أي مكانا ينتشر فيه الوباء، وهذا دليل على أن المباءة دالة على المكان. ومباءة الرواية هي فاس التي أصابها تحول غير وجوه ساكنتها من رجال ونساء وأطفال وصبايا. إنه طاعون المرض الذي شوه خلقة أهالي فاس وشوه جمالهم الذي كان يتغنى به أصحاب الملحون” الزين الفاسي” وهذا يقودنا إلى أن الكاتب أراد اشتقاق ما يدل على الفضاء من المصدر ” الوباء” فأخطأ الإجراء، لأن المكان من وبأ “موبئة”.
“متى تغلق علينا هذه الأبواب وننتظر موتنا على طريقة مدن الجذام؟ المباءة لم تغلق أبوابها علينا بعد، وعلينا أن ننتظر”
وقد تطبعت مدينة فاس الموبوءة بالتحول الغريب والتغير الفانطاستيكي القائم على المسخ والتشويه العجائبي، وقد عبر السارد على المسخ والتشويه بطريقة شعرية قائمة على التكرار والطباق والتقابل والتضاد والالتفات الزمني والتغير الإيقاعي في السرد: “والمدينة اليوم تتغير، تغيرت وجوه سكانها الشيوخ والشبان والصغار، النساء والصبايا، كلهم صارت وجوههم ذات تجاعيد حلزونية، مع انتفاخ باد. بقع ليست كالبرص ولكنها تشبه قشور صدف المحار. حلزون أو محار.؟ تحلزت الوجوه وغطتها طبقة من قشور منطفئة كأنها نبت القراد في جناح عصفور. الوجوه وحدها، وربما الأجساد تستر تحولها الجلدي تحت الثياب ولا يريدون أن يقولوا أن الجلد كله تغير. بدأ الداء الغريب ينتشر، وسموه مرض فاس أو مرض الفاسيين، وكان أول مالاحظه الناس هو اختفاء الضحكة وممازحات الباعة في الأسواق، ودلال الصبايا، ولعب الكرة في الأزقة الضيقة، وازدحام الطرقات. لاشيء من هذا. لم يعد من أحد قادر على الابتسام. والثرثارات ولعب الضامة والكارطة لم يعد لها من وقت أو خاطر. ثم بدأت المدينة تظهر بوجهها الغريب”.
وتدل عناوين الرواية الخارجية منها والداخلية على المكون الفضائي المغلق الذي يتسم بالموت والتقزز والعبثية والخوف والرعب والدرامية والتوتر والبعد الجنائزي والعذاب الإنساني وخطورة الداء. إنه يشبه فضاء العتمة الذي تحدث عنه ميخائيل باختين في شعرية الكاتب الروائي الروسي دويستفسكي ولاسيما في روايته المشهورة “الجريمة والعقاب”.
وينبني المكون الفضائي على ثلاثة مرتكزات أساسية يستضمرها العنوان، وهي:
- فضاء المباءة الذي يحيل على الداء؛
- فضاء السجن الذي يمثل العذاب؛
- فضاء الضريح الذي يشير إلى الموت.
وهكذا يتبين لنا من خلال العنوان أن الرواية تشتغل على الفضاء تأزيما وتحريكا للأحداث عبر مسار البرامج السردية على المستويين: السطحي والعميق.
عتبة المعمار النصي
تعتمد رواية المباءة لمحمد عزالدين التازي على معمارية ثلاثية قائمة على التوزيع الموضوعاتي للفصول:( الضريح، السجن، الضريح) . وهو معمار دائري مغلق في بنائه الحلزوني، تبتدئ فضائيا بالضريح وتنتهي إليه عبر فضاء السجن، أي من فضاء الموت إلى نفس الفضاء عبر فضاء التعذيب والتطهير والتنكيل ومصادرة الحقوق والكرامة والحرية. ومع نفس الشكل الدائري يطول الزمن الروائي. والأمكنة نفسها خاضعة لنفس اللعبة، يقول اليابوري، الضريح والمقبرة والمدينة ، أشباح لمآثر تنعكس على بعضها باستمرار، بل يمكن القول إن المدينة ليست إلإ مقبرة وسجونا أشبه بالمقابر ، ومجموعة أضرحة يفضي بعضها إلى بعض، ويحيل بعضها على بعض. والشخصيات في الرواية تعاني نفس المصير، سواء منهم المجانين أو المختطفين واليائسين، وتلف كل هذه الكائنات والأشياء ألوان شتى من الجنون، فهي تقوم بنفس الحركات كأنها خاضعة لقانون الشكل الدائري: شكل الطقوس الشعائرية البدائية. والدائرة كرمز تعني الانغلاق والجمود في نقطة الصفر (النهاية هي البداية) حيث لا يصبح الكلام حقلا للتواصل، ولا اللغة مكانا مفضلا للاستيلاء على الآخر في فضاء يسوده منطق السلطة في عناده وجموده، وهو ما ألجأ قاسم إلى الصمت ، أو ما يشبه الصمت إبان إقامته في المقبرة حتى عدّ من أشباه المجانين. .
عتبة المقتبسات
يستهل الكاتب فصول الرواية أو أقسامها الثلاثة الكبرى بمقتبسات توضيحية. ففي بداية الفصل الأول نجد مقتبسا صوفيا لابن ضربان الشرياقي يتحدث فيه عن الإنسان العارف والفقيه المجذوب والرجل المتنور في عصرنا. فالعارف في زمن المباءة هو رجل الوجدان والحال وصاحب المقامات على الرغم من عماه أو سكوته. فالمعرفة اللدنية العرفانية لاتتم بالمحسوس المادي ولا بالعقل، بل بالقلب والمشاهدة الروحية. وبعد ذلك، يتحدث الكاتب عن الكأس الصوفية وانتقال قاسم من عالم الرؤية والحس إلى عالم الغياب والأحوال والمقامات الوجدانية. ويعقب هذا المقتبس الصوفي مقتبس فلسفي لنتشه فيلسوف القوة والوجود والرفض الذي أقر فيه بأن الإنسان المتفوق هو الذي ابتلاه الجنون والاشتعال الوجداني. وهذا ما أثبته باسكال عندما أكد عقلانية المجنون باعتباره أكثر الناس عقلا.
ويستهل الكاتب الفصل الثاني بمقتبس لنتشه، وهو مأخوذ من كتابه”هكذا تكلم زرادشت” طالبا فيه الرفاق أن يقتنعوا بمبادئهم ومواقفهم ويصلوا إليها عبر الإبداع والمغامرة الشخصية لا أن يكونوا نسخا مستنسخة أو عقولا مطبوعة بمواقف الآخرين..
وينهي الكاتب الرواية بمقتبس فلسفي لنتشه يضعه في مستهل الفصل الأخير ” الضريح” ليتحدث بلسان الشعب التزاما وتعبيرا عن قضاياهم في مواجهة تأنق البورجوازيين ونفاق الأسياد..
وهكذا نجد الكاتب يمزج الخطاب الفلسفي بالخطاب الصوفي، أو ماهو وجداني بماهو عقلاني على مستوى المقتبسات النصية استشهادا وتوضيحا وبيانا وتأكيدا وإحالة وترميزا علاوة على جمعه بين خطاب الروح اللدنية وخطاب القوة الوجودية. وأصبحت ظاهرة المقتبسات النصية من سمات الرواية الحديثة، وبدأت تظهر في كثير من النصوص الروائية الجديدة والمعاصرة ،ولاسيما روايات بنسالم حميش في رائعته: “مجنون الحكم”.