النص التفسيري- تحليل نص 'القديم والجديد' لطه حسين
سياق النص
لعل من أهم القضايا التي أثيرت إبان اليقظة العربية، و التي كانت مثار خلاف شديد بين النقاد والأدباء، هي قضية القديم و الجديد . و هي قضية متجذرة في الفكر النقدي والانشغال الأدبي الإبداعي العربي منذ اختلط العرب بالأمم التي فتحوها وانصهرت ثقافتهم بعلومها وآدابها وأذواقها. و منشأ هذه المسألة يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين ظهرت حركة إحياء التراث العربي بالعودة إلى أصوله المشرقة، وظهرت بالمقابل حركة نقدية جديدة مضادة للإحياء، فاشتعلت المعارك الأدبية والنقدية على صفحات الجرائد والمجلات، وألفت كتب في هذا الجدل النقدي تضمنت حجج الطرفين وتصوراتهما. وممن خاض في الجدل الدائر حول القديم والجديد طه حسين عميد الأدب العربي، الأزهري الأعمى الحاصل على الدكتوراة في علم الاجتماع، بمقالات نشر جلها في كتابه “حديث الأربعاء”، ومنها هذا النص.
ملاحظة النص
يتركب العنوان من كلمتين عطفت إحداهما على الأخرى للتأشير على نوع من العلاقة الملتبسة بالتجاور والتنافر بحسب طبيعة العملية الحجاجية الثائرة بخصوصهما وسياقات إنتاجها وحدة المواقف المتضادة المتخذة إزاءهما باعتبار القديم والجديد عنصرين يصنعان جوهر الكينونة الثقافية العربية ومكونين عضويين للهوية المترنحة عصر النهضة، إليهما يعزى إلى الذات العربية كل ما ينسب إليها من تخلف أو تقدم أو تخبط أو تفرد بحسب الموقف منهما إقبالا أو إعراضا. وهاتان اللفظتان لبستا في الحركة الفكرية العربية الحديثة ألبسة متعددة لا تخلو من خلفيات غير علمية ولا أدبية، وصيغت لها ثنائيات مشهورة من قبيل الأصالة والمعاصرة، والنحن والآخر، والمحافظة والتحديث، والاتباع والابتداع، وتكرار النموذج وتكسير البنية…
وبإمعان النظر في لفظتي العنوان يتضح أنهما متضادتان تختزنان حمولتين معرفتين وحضاريتين مختلفتين، لذلك يفترض أن الجدل الدائر حولهما يعكس أطروحة ونقيضها، ويفجر موقفا يميل صاحبه إلى إحداهما مجاولا استنفار أجهزته الإقناعية وعدته الحجاجية التفسيرية وقدراته الأسلوبية المؤثرة لتوضيح تصوراته وتزكية موقفه، وهو ما سيكشف عنه النص.
فهم النص
يعرض النص إشكالية القديم والجديد في بنية تصورية مفاصلها الأساسية تتحدد في ما يلي:
- إقرار الكاتب بعدم إمكانية الحسم في مسألة القديم والجديد لأنها جدل طبيعي حاصل في كل الأمم وكل الأزمنة ونتيجة منطقية لتطور المعرفة وتفاعل مكوناتهان وينبغي الاستفادة من تداعيات هذا الجدل لا تحويله إلى معيق للتطور .
- اعتقاد الكاتب أن الانتصار للقديم وهم وتكلف وادعاء مادام أنصاره أكثر التصاقا في حياتهم بالجديد، وخلطه في مسألة القديم والجديد بين اللغة والأدب والثقافة والقيم المجردة وبين وسائل الحياة المادية ضعف واضح في بنيته الاستدلالية ومناورة خطابية لا غير.
- اعتراف الكاتب بوجود أنصار قلائل مخلصين للقديم بسبب قصور فهمهم للجديد والقديم وللصلة بينهما، وهؤلاء يتركون لحالهم لأنهم ليسوا شيئا، إعلان صريح من الكاتب أنه من انصار الجديد المتحاملين على القديم جملة وتفصيلا.
- انتقاد الكاتب أنصار الجديد بلغ حدا يلغي فيه وجودهم، أو يقصره على فئة قليلة جاهلة تعيش خارج التاريخ، وحجته تباكيهم على منظومة لا يخلصون لها طالما أنهم يركبون السيارات ويجلسون على الكراسي ويأكلون بالملاعق، وهي حجة فيها غير قليل من الارتكان إلى السطحية والذاتية في النظر إلى منظومة معقدة كمنظومة الثقافة والقيم.
- انتهاء محاججة الكاتب إلى اعتبار الانتصار للقديم بدعة ومبالغة وقضية غير متجذرة ولا سند لها من الواقع.
تحليل النص
يتضح منذ الجملة الأولى في النص أن محور الجدل والمحاججة ليس عرض إشكالية القديم والجديد بكل حمولاتها المتناقضة وتصورات طرفي المخاصمة النقدية القائمة على أشدها، بل عرض مواجهة الكاتب لأنصار القديم، ومحاولته دحض أطروحة لا يعرض بأمانة خلفيتها الفكرية والمنطقية، فلا نرى في النص موقفا من أشكال الفكر والإبداع والفن القديم وقيمه الدلالية والجمالية الثابتة والمتغيرة سوى أنه عليه أن يزول فاسحا المجال أمام جديد لا يعرض النص ماهيته أيضا ولا نسب حضور القديم فيه، وهو ما يضع تحليلنا في مأزق. وبالنظر إلى ما يعرضه النص من تصورات فإن هم طه حسين هو التصدي لأنصار القديم الذين يمثلون الحركة السلفية وحركة إحياء التراث العربي وبعثه لربط حاضر أمة عربية جامدة مقهورة بماض مشرق يشكل قاعدة للانطلاق نحو مستقبل متميز ومزدهر، هؤلاء الذين كانوا بالأمس زملاء لطه حسين في الأزهر والجامعة باتوا خصوما له ولأنصار الجديد الذين تبنوا خيارا آخر يدعو إلى الانفصال عن القديم، والانخراط في الجديد بما يمثله من فكر ولغة وأدب وقيم وحضارة، التحاقا بركب الغرب المتقدم وتقليدا له واستنساخا لأنماطه الفكرية والفنية والمنهجية ؛ ولهذا خرجت المحاججة في هذا النص، وفي الردود التي أثيرت حوله عن منطق الحوار المعقول إلى محاولات النسف والإقصاء والتسفيه.
حاول طه حسين بيان فساد الأطروحة المدحوضة من خلال اعتبارها سلوكا معرفيا طبيعيا مرتبطا بحتمية تاريخية تعلن زوال مرحلة وقيام أخرى، ولذلك فالقديم في حكم الزائل، وهو كالديك المذبوح يترنح تمسكا بحياة آيلة حتما إلى النهاية، محاولا إقناع أنصار القديم بأن كل مرحلة لها طابعها ومميزاتها التي تسم كل مظاهرها، وليس اللغة والأدب فحسب، واعتمد طه حسين في استدلالاته على نوع من القياس المنطقي المتدرج القائم على ربط الأفكار بعضها ببعض ربطا سببيا، فالصراع بين القديم والجديد مسألة حيوية لأن الواقع يتطور ويعلن في كل مرة عن انتقال، لذلك لا بد للقديم أن يقاوم كي لا يزول، وللجديد أن يقاوم كي يثبت، والمسألة في النهاية إزالة وتثبيت، وهو منطق ابتعد عن افتحاص البنية الداخلية للأطروحتين، وحاول المحاججة من خارجهما، لأنها الخيار الأسهل غير المكلف، ويتم أحيانا بطريقة سفسطائية مما يقودنا إلى اعتقاد مفاده أن البنية المنطقية لهذا الهيكل الاستدلالي لطه حسين في هذا النص ضئيلة بالقياس إلى أبعاد الظاهرة موضوع المحاججة.
ما يميز النص الحجاجي قوته الإقناعية وأسلوبه الحجاجي، ويتحقق ذلك بأساليب التفسير من وصف وتعريف وسرد ومقارنة وتمثيل واستدلال وتركيب واستنتاج، وقد رأينا أن النص حاول جاهدا تقوية بنيته الاستدلالية بنوع من المنطق القائم على استقراء واستنباط وقياسات غايتها القصوى النيل من أنصار القديم وتهوين قضيتهم وتقزيم وجودهم، رغم أن قيمتها التفسيرية والاستدلالية هشة كمسألة الخلط بين القيم المجردة بما فيها من ثوابت ووسائل الترفيه المادية العرضية المتغيرة باستمرار، ومسألة وسم المخلصين للقديم بالجهل والقصور وغيرها مما لايعتد به في بناء الخطاب الحجاجي التفسيري. كما أنه توسل بأساليب مثيرة ومغوية وداعمة بشكل كبير للطابع الحجاجي التفسيري في النص، منها التلوينات الأسلوبية الملامسة لسياقات تداولية تخرج عن مقتضياتها المباشرة المرتبطة بالخبر والإنشاء أحيانا، وتلزمهاأحيانا أخرى تأمينا للالتحام الدلالي المنطقي القاصد إلى نسف أطروحة وتثبيت أخرى من جهة، وإشاعة لنفس جمالي تمارس عبره اللغة قوتها التأثيرية لمحاصرة المتلقي من الجهتين العقلية والنفسية من جهة أخرى، كما استثمر النص أسلوب التكرار، وخاصة تكرار التراكيب نفسها، أو بإعادة تركيبها مستخدما نفس المواد المعجمية، وتكرار صيغ النفي والإثبات، وأنواعا من التكرار الدلالي والصوتي المتمثل في الترادف والجناس، وتكرار ثنائية القديم والجديد، والتكرار المعجمي المتطابق والاشتقاقي، ومؤشرات التوكيد المتنوعة، وأدوات التفسير الزاحفة على النص من بدايته إلى نهايته، وهذا التكرار له بلاغة خاصة في تصدير الدلالة الإلحاحية الإقناعية التوكيدية. واستثمر النص أيضا محسنات كلامية جعلت جمل النص تحبل بإيقاع موسيقي مؤثر كبعض السجع وأنواع من الطباقات والمجانسات، وهو ما يجعل لغة النص رغم بعدها عن الطابع البياني مخلصة للصياغات القديمة الكامنة في اللاوعي المعرفي والفني للكاتب مضيفة إليها مزيدا من السلاسة والتدفق والليونة، رغم أنه يحاول في النص التدليل على عدم أهليتها.
تركيب وتقويم
النص نموذج بسيط للخطاب الحجاجي التفسيري الذي يعالج إشكالية معقدة شغلت النقاد العرب منذ عصر النهضة، كما شغلت حيزا في خريطة النقد في كل الثقافات والحضارات، ولو بحدة أقل، وأنتجت خطابات حجاجية متحاملة أحيانا، وموضوعية أحيانا أخرى، والنص فيه نسب من كليهما، ويرى كثير من المشتغلين بتاريخ الأفكار أن الصراع لايحسم بإلغاء أحدهما للآخر، لأن ذلك ضد التاريخ والمنطق، وأن التلاقح والتفاعل الطبيعي بين القديم والجديد والنظرة الموضوعية المتسامحة وحدها كفيلة بإخراج العالم من صراع الحضارت الذي هو في نهاية المطاف صراع قناعات وتصورات، ومحاولة هويات تذويب أخرى أو تحييدها بمنطق القوة أو التسفيه والمؤامرة. ونص طه حسين لا يعي كل هذه الأبعاد بقدر ما هو منجذب إلى الجديد مشدود له بسبب انبهار بمنجزاته عصرئذ، ومتذمر من هيمنة القديم الذي يأبى أن يستسلم بسهولة على الأقل في ذلك الوقت، وهو يعرض تصوراته بلغة رصينة أسلوبيا فيه الكثير من ملامح القديم، وغير قليل من التحرر من بعض قيوده، يلعب فيها التكرار والتلوينات الأسلوبية وبعض اللمسات التجميلية دورا مساندا للوظيفة الإقناعية.