النص الإخباري - تحليل نص 'إبراهيم عليه السلام يناظر قومه'
سياق النص
الخطابة والمناظرة من الخطاب الحجاجي، تسود في الأولى مقاربة بلاغية، وفي الثانية مقاربة منطقية صرفة، ومدار الحجاج في الخطابة الإقناع في مجال المحتمل والمسائل الخلافية القابلة للنقاش، وتتاأسس على مقدمة تثير المتلقي إلى الموضوع وسرد تساق فيه الوقائع إلى المخاطب مختزلة مضبوطة واستدلال في شكل تبرير موضوعي إيجابي أو سلبي لايخلو من نفس انفعالي، فنهاية تجمع حصيلة البرهنة. أما المناظرة فجدل واستدلال يرتكز على المقابلة والتفاعل الموجه بين طرفين يحاول كل منهما إثبات أطروحته، وتنتهي بإقرار أحدهما لمعارضه بقوة الحجة وسداد الرأي. وقد كانت المناظرة منذ القديم أسلوبا للجدل الموصل إلى الحقيقة، والمؤدي إلى تصحيح الكثير من الاختلال الفكري والعقدي والأخلاقي، وقد كان الرسل بحق أفضل المناظرين لأقوامهم، يهدونهم بالحسنى والتوجيه العقلي المنطقي البديهي إلى حقيقة الخالق والخلق والموت والبعث، وقد قدم القرآن الكريم نماذج من هذه المناظرات التي تحمل خبرا ينطوي على جدل ومحاججة، كما هو الشأن في قصة إبراهيم عليه السلام وخطته الحجاجية الحوارية التي أفحمت قومه ونسفت أباطيلهم وكشفت عن إصرار على الخطأ رغم إقرارهم بتفاهة رأيهم وفساد سلوكهم.
ملاحظة النص
النص آيات قرآنية من سورة الأنبياء، وهي سورة مكية طويلة اهتمت بتأصيل مفهوم التوحيد والدعوة إلى تطبيقه عمليا، بعد الاهتداء إليه بالعقل والبصيرة، والنص يعمل على شحذ هذه البصيرة وإنارة ذلك العقل بما يعرضه من حقائق وأخبار حملت في طياتها أنواعا من الإلهام (الرشد) التي ألهم الله به رسله، ومنهم إبراهيم، لإقامة الحجة على الناس حتى لا يكون لهم عذر من جهل أو التباس، وجملة العنوان مما وضعه مؤلف الكتاب المدرسي ليدلل على نوع القضية المعروضة في النص، وهي جملة خبرية بسيطة تؤشر على أن هذا الجزء من سورة الأنبياء يدخل في باب الخطاب الحجاجي الإخباري من جهة، لأن القرآن الكريم يخبر قريشا والناس كافة بهذه القصة لغاية إقناعية وتأثيرية، وفي باب المناظرة من جهة أخرى باعتبار الجدل الذي دار بين إبراهيم وقوم الذين عجزوا عن محاججته بعدما اتضح زيف دعواهم فلجأوا إلى جبروتهم لتصفية الخليل عليه السلام.
فهم النص
يتمفصل النص القرآني موضوع تأملنا إلى جملة من المفاصل الخبرية والبرهانية، نورد منها:
- إلهام الله إبراهيم عليه السلام الهداية والرشد ومعرفة الحق والقدرة على الاستدلال عليه.
- سؤال إبراهيم قومه عن معبوداتهم المنحوتة بغير ما يطلب به بيان الحقيقة، ولكن تحقيرا وإذلالا لها، وتوبيخا لهم على إجلالها.
- إجابتهم له بما لا يعتد به عقلا من تقليد الآباء وتحميلهم مسؤولية اختيار هذا السلوك العقدي المنحرف.
- تأكيد أبراهيم فساد تصور قومه وآبائهم الظاهر للعقل، البين بداهة لعدم استناده إلى دليل معقول وفطرة مقبولة.
- محاولة القوم صرف مقالة إبراهيم وحجته إلى مجال المداعبة والمزاح بعد ثبوت رجحان برهانه على مستوى المعقول الجلي والمقبول الفطري بسؤال استبعدوا فيه ضلالهم، وتعجبوا من تضليله إياهم.
- إقامة إبراهيم البرهان على قومه بإرشادهم إلى المعبود الحق الخالق للسماوات والأرض وما فيهن، بخلاف معبوداتهم التي صنعوها بأيديهم مماثلة لبعض المخلوقات.
- عزم إبراهيم بعد إعراض قومه عن الحجة النظرية على إقامة حجة عمليةمحسوسة ومؤثرة لا تدع مجالا لشاك أو متكبر.
- اجتهاد إبراهيم في انتهاز فرصة انصراف القوم إلى عيدهم، وكسره الأصنام، وتعليقه الفأس على عاتق كبير تماثيلهم.
- سؤال القوم عمن حطم آلهتهم على سبيل الإنكار والتوبيخ والتشنيع، وتقريرهم أن من تجرأ على إهانتها بهذا الشكل ظالم لها، معرض نفسه للهلكة.
- إخبار بعضهم ممن سمع إبراهيم يعيب الأصنام ملأهم باحتمال أن يكون هو الفاعل.
- استقدام إبراهيم عليه السلام لسؤاله أمام الملأ عما أصاب آلهتهم.
- سلوك إبراهيم مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم، حيث نسب الفعل إلى كبيرهم استدراجا لقومه للاعتراف بعجزها عن النطق للإخبار بمن فعل بها ما فعل، فأحرى السمع والعقل والحركة.
- مراجعة القوم عقولهم، واعترافهم بحال أصنامهم العاجزة، وبظلمهم أنفسهم بعبادتها.
- انقلابهم إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة إمعانا في الاعتداد بالباطل، والارتكان إلى الكبر والجحود، وإنكارهم على إبراهيم طلبه سؤالها، وهو يعلم، وهم يعلمون أنها لاتنطق.
- تبكيت إبراهيم قومه، وتقبيحه لهم ولأصنامهم، إذ عقلوا عجزها عن النفع والضر فعبدوها من دون الله، وكان أجدر بهم تجنب ماهم فيه من الخضوع لها.
- لجوء قوم إبراهيم لما عجزوا عن المحاجة وضاقت عليهم الحيل، وهكذا ديدن المبطول المحجوج إذا قرعت شبهته بالحجة الدامغة وافتضح، إلى المناصبة والانتقام والقتل والحرق.
- أمر الله تعالى النار أن تنقلب هواء طيبا لا يؤذي إبراهيم عليه السلام، معجزة أذل الله بها الكافرين فخابوا وخسروا، وتلك سنته سبحانه في نصرة أوليائه.
- هجرة إبراهيم وابن أخته لوط عليهما السلام من العراق إلى الشام البلد المبارك الذي بعث فيه أكثر الأنبياء، وفيه كثرة النعم والخصب.
- منّ الله عز وجل على إباهيم بإسحاق نبيا، ومن بعد إسحاق يعقوب، وإكرامهم بالصلاح في الدين والدنيا، وجعلهم أئمة يقتدى بهم يدعون إلى الحق ويفعلون الخيرات ويلزمون الطاعات والعبادات لا يشغلهم عنها شاغل.
تحليل النص
محور الحجاج في النص بين إبراهيم وقومه مرتكز على موقفين: موقف يدعو إلى عبادة الله، وموقف مصر على عبادة الأصنام، وبالنظر إلى سيرورة الحجاج القائم على الانتقال من نسف الموقف السلبي الذي تمثله الأطروحة المدحوضة إلى تثبيت الموقف الإيجابي الذي تجسده الأطروحة البديل والخيار الصحيح، يتضح أن هشاشة الموقف السلبي لا تتطلب سوىالتأمل في طبيعة الأصنام وماهيتها ( مادة صنعها – صانعوها ـ عجزها المطلق عن الإدراك والحركة …) وأن الاستدلال على الأطروحة الصحيحة يحتاج إلى استنفار العقل والحواس والتوجه إلى آيات الله في الكون للوصول من خلالها الحقيقة الأبدية والصانع العظيم.
كان هدف الحجاج في النص هو تصحيح المعتقدات الخاطئة، ودفع الباطل عن عقول الناس وسلوكهم، وتوجيههم إلى دروب السمو والتحرر من الأوهام والتخرصات وكل الضلالات التي يختلقها الناس ويتوارثونها، فتبعدهم عن حقيقة الإنسان ووظيفته في تمثيل الخير وتحقيق أنواع البر التي تهيئه للكرامة الدنيوية والأخروية. وقد سلك إبراهيم عليه السلام خطوات عملي لإقناع قومه، طالما أن المناظرة بالفكر المجرد لم تفض إلى الهدف، فكان كسر الأصنام واتهام كبيرها خطة ذكية حركت عقول القوم وأتاحت لهم مراجعة قناعاتهم والاعتراف ببطلانها، ويستثمر إبراهيم هذا المنحنى المنطقي العملي فيوجه قومه إلى القناعات الصحيحة والحقيقة الساطعة؛ لكن الإنسان بطبعه، وخاصة الذي يملك أسباب القوة والغلبة، يأبى الانصياع إلى الحق والاعتراف بالخطأ معتبرا ذلك منقصة وضعفا وهزيمة. لذلك، وبعد دحض الأطاريح الباطلة، خاف قوم إبراهيم من افتضاح حالهم فعدلوا عن الجدل والمناظرة، وعمدوا إلى القوة يسترون بها هزيمتهم ويخفون ضعفهم ( حرقوه وانصروا آلهتكم )، وآلت المناظرة إلى ما آلت إليهمن خسران الجاحدين بعدما تدخلت القدرة الإلهية لتنجي إبراهيم من النار، فيخرج منها سالما منتصرا مأمورا بالهجرة إلى الأرض المباركة (فلسطين).
يلعب الحوار في النص دورا أساسيا في تأمين البعد التواصلي بين المتناظرين، ويعتمد على أدوات إبلاغية تمنحه القدرة على تحقيق وظيفته، وهو يتكئ على الاستلزام الحواري والأسلوب الاستجوابي، حيث شكلت الأسئلة والأجوبة بمقاماتها التداولية المتعددة ومقاصدها البلاغية المؤثرة حافزا لمتابعة الحوار بين طرفين غير متكافئين أحدهما يملك الحقيقة والإلهام الإلهي (الرشد) والآخر يمتلك الضعف البشري والسلوك العنيف، واتسمت الاستفهامات في النص بانزياحها عن غرض السؤال المباشر إلى خلخلة أحوال نفسية وفكرية استدعت دلالات السخرية والتقبيح والتشنيع والتعريض وغيرها، واتسمت الآليات الأسلوبية ذات الصبغة التقريرية أو الإخبارية السردية بالكثافة الدلالية والاستدلالية التي تختزن عددا هائلا من الإيحاأت الممتدة والمتناسلة والميسور إدراك جلها وتتبع خيوطها بإعمال الفكر وشحذ الحواس والبصيرة، وورد في النص الكريم أيضا جمل إنشائية أخرى مباشرة، ولكنها مشبعة بالمبالغة في التحريض والقسوة في الانتقام ( حرقوه …) أو صادعة بالأمر الإلهي الخارج عن مألوف البشر ومستطاعهم ( يا نار كوني بردا وسلاما…).
تركيب وتقويم
النص حجاجي إخباري، يستفيد منه الناس عامة قصة على سبيل الاعتبار تحكي عما وقع لإبراهيم عليه السلام مع قومه في سياق دعوتهم إلى الملة القويمة والعقيدة الصحيحة بالحجة المنطقية الواضحة والدليل العملي التجريبي، وكذلك شأن كل الرسل، ومحمد صلى الله عليه وسلم أحد أولي العزم منهم، مبلغ هذا النص الكريم عن ربه، لذلك لا عجب أن يناله من قومه من محاربة دعوته إلى الحق، ومواجهة توجيهه إياهم إلى الآيات البينات والحجج الساطعات التي تدل على الله كما تدل على تفاهة ما هم فيه من اعتقاد باطل وسلوك منحرف بكل الإنكار والجحود والأذى، فيصبر الرسل وتكون لهم العاقبة. وقد اتخذت البنية الحجاجية في النص مسارا تصاعديا بدأ من إنكار إبراهيم عبادة قومه للتماثيل، ثم انتقل إلى الاعتراض على هذا السلوك الشركي وتعييبه، ثم وصل إلى النتيجة التي أسفرت عن عدم رغبة القوم في الاقتناع بدعواه ظلما وعدوان رغم وضوح الحجة وقيام الدليل. هذه البنية الحجاجية الإخبارية عرضت بأسلوب قرآني معجز جمع بين السرد والحوار والخبر والإنشاء، واتسم بتكثيف دلالي(إيجاز) بليغ ومؤثر.