النص الحواري - تحليل نص 'الحكاية رقم (62)' لنجيب محفوظ

سياق النص

أخطاء الحياة الفادحة التي لا يتسنى لها أن تعرف طريقها إلى العلن والتصحيح والتكفير تظل عبئا ثقيلا يرهق الإنسان الحي، حتى إذا أشرف على الرحيل قتله الندم، وعاودته الرغبة في العودة إلى المسار الصحيح، لكن غالبا ما يكون الأوان متأخرا، والتكفير شاقا أو متعدرا. تلك بعض من آفات الحياة التي امتلأت بها المجموعة القصصية لنجيب محفوظ ” حكايات حارتنا ” التي تضم ثمانية وسبعين حكاية تصور مجتمع القاهرة بكل تفاعلاته وتناقضاته. إنها مرآة لنماذج بشرية صادفها نجيب محفوظ في حياته، ويحكي قصتها بكل واقعية وشفافية ترصد الواقع كما هو، فتعري تفاصيله للمتلقي تعرية تروم تشخيص الداء ليسهل علاجه.

ملاحظة النص

إذا أمعنا النظر في العنوان ألقيناه مركبا من لفظ ورقم، يحيل اللفظ على جنس النص بكل ما يختزنه من عوالم سردية، ويحيل الرقم على ترتيب الحكاية داخل المجموعة القصصية، مما يعني أننا أمام قصة قصيرة. وبالنظر إلى المقطع السردي القصير في بداية النص الحواري يتضح أن موضوع الحكاية اجتماعي يصور واقع شخصية ثرية صالحة، لكن صلاحها له سر لا يعرفه أحد، تكشف عنه في نهاية حياتها علها تتخلص من عبئه، لكنها تجني عقوقا ونكرانا، وترحل معها الجريرة تفسد عليها طمانينة الرحيل، وهو ما يفصح عنه آخر ملفوظ في النص.

فهم النص

يتمفصل النص إلى عدد من الوحدات السردية الاتية:

  • تقديم السارد بورتريه للشخصية الرئيسية للنص، قسماته الاساسية ثروة وطيبة وصلاح وعطف على الفقراء والأقرباء، وخاصة آل مهران الذين جنحوا إلى الجريمة والعنف بسبب عوزهم.
  • استدعاء الحاج علي ولده الأكبر لإخباره بكابوس ينغص عليه اللحظات الأخيرة من حياته.
  • الحوار الذي دار بين الأب والابن مبتدئا بمحادثة فيها ود وبر، ومنتهيا بصدمة الابن لحقيقة والده ومصدر الثروة التي نعموا بها في عيش رغيد.
  • موقف الابن من اعتراف الأب سلبي يحمل الأب مسؤولية خطئه ويرفض تصحيح الوضع لما قد يترتب عنه من ضياع حياة الاسرة وتدمير سمعتها.
  • نهاية الحوار بموت الحاج علي الخلفاوي موتا مشكوكا فيه بسبب الرجة التي خلفها اعترافه، والتي أثارت رغبةكبيرة لدى ابنه في التعجيل بدفن سر أبيه معه.
  • نهاية القصة طبيعية بالنظر إلى واقع المجتمع العربي المتردي، وهي مفتوحة على آفاق تأويلية متعددة لاحتمالات موضوعية وفنية يدخل ضمنها رواة الحكاية وتعليق السارد وقناعات القارئ وافتراضات القراءة.

تحليل النص

النص حوار بين طرفين يكشف عن توتر العلاقة بين الحاج علي الخلفاوي وابنه الأكبر مند أن كشف الأب عن فحوى الحلم \ الكابوس الذي يقض مضجعه، ويجثم على صدره، وهو حوار يصنع ماهية الشخصية وصفاتها الأصلية، ويستثمره الكاتب في التكثيف الإيحائي للحدث ولمواقف الشخصيتين وأحاسيسهما في شكل تواصل يقوم على تبادل البث والاستقبال، ونسج أنماط من العلاقة الآخدة في التوتر، وهي علاقة بدأت في النص إيجابية وانتهت سلبية، وأفرزت الكثير من الأنانية والعدوانية من قبل الابن، كما عكست العديد من القيم والمقاصد التي يتعين الانتباه إليها في تغيير مسارات الأمور، وتصحيح انحرافات الشحصية. وطالما أن الحوار في النص مبني على حدث الاعتراف “الصدمة” ورد الفعل المخيب فقد بني بشكل واسع على تبادل الإرسال والتلقي القصير، وتوظيف الجمل الاستجوابية المشحونة بالنفس الانفعالي الحاد المتأرجح بين القلق والندم والاختناق من جهة، والحنق والتجاهل والإنكار من جهة أخرى، والمستثمرة لأساليب الخبر والاستفهام والنفي والاضراب باستعمالاتها المتعددة المباشرة والمنزاحة إلى دلالات سياقية تمثل ذلك الفيض الانفعالي المتناقض بين رغبتي التطهير والخوف من العار؛ ولأن الحوار في هذا النص السردي أسلوب يسمح بتدفق فعل الشخصية في الزمان والمكان تدفقا حيا فقد تخللته مقاطع سردية قصيرة سمحت باختزاله، وطوت بعض مراحل البوح والاعتراف في جمل إخبارية مقتضبة تولى فيها السارد اختصار حوار ثنائي الأبعاد يفترض أنه حمل قصة ثراء العائلة كلها وعلاقتها بخراب آل مهران، وما قد يكون تخلل ذاك الحوار المسكوت عنه من مواقف وأفعال وردود بما فيه من توسل وضراعة وجفاء واحتقار، وهذه المقاطع السردية والوصفية اضطلعت بوظائف متعددة، لعل أهمها تأثيث فضاء الحوار، وتحديد ملامح الشخصيات ووصف حركاتها وتعيين مواقفها، وتحريك الحدث والإيهام بواقعيته، وترتيب أجواء الصراع، وصناعة الحبكة.

ساهم الحوار في النص في تمثيل مواقف الشخصيات المتحاورة عبر تحقيق جملة من الوظائف أهمها الوظيفة التواصلية التي تسعف في تصوير الصراع الذي دار بين شخصيتين: الأولى تريد تصحيح خطئها، والثانية تصر على حماية موقعها ولو اقتضى الأمر دفع الأب إلى الجحيم، كما تسعف في الكشف عن أنماط التفكير والتصرف إزاء المواقف الحرجة واللحظات التي تخلق الأزمة، وتعالج فيها الخطيئة بالخطيئة بناء على حسابات واقعية نفعية، وفي رسم صورة واضحة للشخصيات المتحاورة في أبعادها الحسية والاجتماعية والنفسية التي لا تشد عن أفقها المألوف والواقعي مما يمنح القصة حيوية وإثارة.

يتمحور الحوار في النص حول موضوع الخطيئة والندم والعقاب المرتبط بها في حياة مبنية على أساس هش ينذر بلعنة تحرق الحرث والنسل. وقد عرض الكاتب هذا الموضوع في إطار درامي متشابك ساهم في بلورة أبعاده فضاء الحوار غير المحدد، وزمانه الذي لم يلتفت إليه الكاتب سوى أنه مرتبط بإحساس الشخصية الرئيسية بدنو أجلها في حكاية تنتمي إلى الماضى وتستمر على لسان أهل الحارة في الحاضر،فلا نعرف فيه ليلا ولا نهارا، ولا يوما ولا شهرا مما يتلاءم بشكل عضوي مع تضخيم الإحساس المهيمن على الشخصيتين في النص، ويسمح بانبثاق فضاء مفتوح ومغلق في نفس الوقت، حميمي وعدائي معا، ينطلق من سرير الحاج علي الخلفاوي في غرفة شاسعة في دور من أدوار بيت كبير إلى مكان ما في الماضي والمستقبل، ويضيق الخناق على الشخصية هو والزمن الحرج المنذر بالرحيل. وهكذا يكتسي الزمن والمكان دلالات نفسية دراماتيكية يحاول أحد أطراف الحوار فتحهما ويصر الثاني على إحكام إغلاقهما بكل المصاريع، ولكل منهما منطلقاته وأهدافه، والحسم للأقوى والأيفع والأكثر قدرة على المكر وسرعة في الحركة.

لكل من الشخصيتين المتحاورتين في النص سمات مرتبطة بالوظائف والدوافع التي تحركها، وهي سمات تختزل حركاتها وطريقتها في التعبير عن مواقفها ورغباتها وأحاسيسها، ويعكس المعجم المستثمر في النص هذه السمات المتنافرة والمتقاطعة أحيانا، فبين معجم القيم الإيجابية التي مثلتها وظيفة الحاج علي الخلفاوي كرجل موسوم بالصلاح والطيبوبة والكرم ورعاية المحتاجين، ووظيفة ولده الذي بدا قبل الاعتراف ودودا عطوفا متواصلا إيجابيا مع والده، ومعجم القيم السلبية التي مثلها ماضي الحاج علي الخلفاوي وموقف الابن من الاعتراف، ورد فعله تجاه الأزمة، وأفعال شخصيات عابرة موسومة بالقبح والانحراف، ينبثق معجم الحالات النفسية المتوترة للشخصيتين المتحاورتين المعبر عن وعيهما الخاص، ولا وعيهما أيضا، وتقديرهما للحدث \الأزمة، وعواقبه المختلفة عند كل منهما بما يعلن عن الهوة العميقة التي أصبحت تفصل بينهما على مستوى التفكير والرغبة والإحساس. هذا التنوع في الحقول المعجمية الناجم عن تغير الأدوار والوضائف يخلق ثراء دلاليا يلامس كنه الطبيعة البشرية غير المستقرة.

تركيب وتقويم

يسعى الحوار في النص إلى سبر أغوار الشخصيتين في أبعادهما الإنسانية لحفزهما على البوح برؤاهما وتصوراتهما، بوحا يلامس شروخا عميقة في نفسية الإنسان المتلبس بالخطيئة، المدرك بشكل من الأشكال لجوهره الضعيف وتركيبته غير السوية، المصر على العناد والأنانية والتماطل والعقوق والجزع حفاظا على وضع يصعب التضحية به، ويستحيل معه الرجوع إلى الوراء، وتعاملا مع الواقع بنوع من السلوك وشكل من التصرف يختزل التصحيح في طي الصفحة وكنس الخطر، وتحميل السلف مسؤولية أفعال الخلف في أوضاع هشة تتفشى فيها القيم الرديئة، وتندر قيم البطولة والتضحية.

وقد عرض النص هذه الصورة في حدث شديد الاختزال، وشخصية تصدعت هويتها وغرقت واقعها واختارت مصيرها، وزمن نفسي مزدوج الأبعاد يختلط فيه الحنق بالتوسل والرحمة بالغلظة، وسارد متكلم عالم بخبايا الحكاية وأوضاع القوى الفاعلة، ولغة مباشرة تتوزع بين الإخبار والإنشاء الممسوسين بعبارات دافئة حينا وموجعة آخر، ومعجم يذهل المتلقي بما يفجره من تشويق وإثارة.