النص الوصفي - تحليل نص 'الجالس في الحديقة ينتظر' لرضوى عاشور
سياق النص
يلتقط النص الحكائي الوصفي لحضات من الحياة، فيتغلغل فيها عارضا حركة وسكونا ويفاعة وذبولا يمر عليها الناس فلا يعيرانها أدنى اهتمام، ويسلط عيلها الروائي أجهزته الإدراكية النافدة والحساسة وأدواته الفنية الخلاقة فيصنع منها صورا إنسانية غزيرة المعنى بليغة التأثير. ذلك ما حاولت ” رضوى عاشور” التقاطه من زحمة الحياة حيث أثر فيها منظر رجل طاعن في السن يجلس على مقعد في الحديقة بلا حراك كانه منفصل عن العالم.
ملاحظة النص
يبدا الحكي بجملة في النص ” في البدا لم أنتبه…” وينتهي بجملة ” ألقيت نظرة خاطفة…” ليؤشر على نوع من العلاقة بين الملفوظ الاول والأخير تمثلها الصورة التي رسمتها الراوية للرجل الجامد على المقعد في الحديقة بين الانتباه العارض والقلق المثير بشأن حالته والإعراض المعلن عن استعادة التوازن النفسي الذي خلخله العنصر المثير في الحكاية. وهو ما يدل على بعضه العنوان المركز على فعل الانتظار، والمستضمر لحالة المنتظر التي يكشف عنها السرد والوصف في هذه القصة القصيرة المأخوذة من المجموعة القصصية ” رأيت النخل” لرضوى عاشور الناقدة والروائية المصرية المتميزة.
فهم النص
يتمفصل النص إلى حزمة من الوحدات السردية والمقاطع الوصفية الاتية:
- عدم انتباه الساردة إلى الرجل الغريب الجالس على المقعد قبالتها، لأنها كانت منهمكة في اللعب مع طفلها، ولأن الشيخ الهرم كان جامدا في مكانه كأنه قطعة من الحديقة.
- وصف الروائية فضاء اللعب الفسيح بكل مكاوناته الطبيعية من شمس وسماء وأشجار ومقاعد خشبية.
- وصف أجواء المرح والصخب والركض والقفز ورمي الكرة والتقاطها التي انخرطت فيها الساردة مع طفلها.
- اكتشاف الساردة وجود رجل طاعن في السن جالس قربها بلا حراك أفقدها التركيز في اللعب، وأثار تبرم الطفل.
- الخواطر التي دارت بخلد الساردة بخصوص منظر الرجل وحاله المثيران للارتباك والحيرة والقلق جعلتها تفكر في مغادرة الحديقة.
- استغراق الساردة في وصف حالة الرجل المنتظر انطلاقا من هواجسها، وتداعيات تاثير منظره الكئيب على الاحداث وعلى نفسية الشخصية.
- استعادة الساردة اجواء المرح واللعب مع طفلها بكل العزم المطلوب بعد تخلصها من أثر نظرتها إلى الرجل المسن.
تحليل النص
في النص حدث واحد يتمحور حول انشغال الساردة بوجود رجل مسن غريب نبت فجأة في فضائها الحميمي القريب جامدا لا يتحرك أثناء انهماكها في اللعب الكرة مع طفلها، وبين لحظتي هذا الحدث المشكلتين للبداية والنهاية ينتشر الوصف فيحيط بكل الحركة والسكون والانفعال الذي يرين عن اللحظة ويملأالمكان. والوصف في هذا النص مزدوج الأبعاد، فهو تفسيري وإيحائي يدفع بتفاصيل الحدث دفعا وئيدا إلى نهاية اللحظة المسرودة من جهة، وجمالي إبداعي بما يختزنه من قدرة على التقاط المرئي واللامرئي، المحدود واللامحدود، وتصديره إلى المتلقي في توليفة سردية معبرة ومؤثرة من جهة اخرى.
يغلب على الوصف في النص أنه ذاتي يسقط الكثير من مشاعر الساردة المتماوجة بين إيقاعين: صخب مرح وقلق مربك، هكذا تتناسل صور الموصوفات في ذهن الواصفة مستلهمة من الواقع والممكن والمتخيل، مفجرة الكثير من الهواجس التي تنتاب الإنسان فتوجه حركاته ايجابا أو سلبا، أو تعيده إلى نقطة الصفر مستعيدا توازنه، طارحا كل العوارض خلف ظهره مستمرا في الحياة وكأنه لم ير ولم يسمع.
– يهيمن على الوصف في النص المدرك بالبصر والاحساس الباطني؛ مما يضعنا أمام نوعين من الوصف: مادي محسوس ومعنوي غارق في تتبع الهواجس والبلابل وتوقع الأحوال النفسية المرتبطة ببعض القرائن الظاهرة، وهو أمر منح النص الكثير من الحيوية والعمق والاستبطان الذاتي الذي يدفع المتلقي إلى خلق عوالم موازية للصور التي يبثها الوصف، فيتسع النص وينفتح مع القراءة والتلقي، ويصبح أكثر تأثير وجمالا.
يقوم الوصف في النص بتوسيم الشخصية والأشياء والحالات والأمكنة مستخدما تعابير وتشبيهات ونعوثا وأحوالا تلائم الموصوفات وزوايا الوصف وطبيعته، فهي موضوعية واقعية دقيقة حين تمس المظهر الخارجي أو الحركة المنظورة، وهي شفافة كثيفة موحية حين تلامس الأحاسيس والأفكار والمواقف، لذا كانت الساردة دقيقة في وصفها للطفل والرجل والحديقة متخذة زاوية للوصف مكنتها من التقاط أدق تفاصيل الجسد والحركة والسكون، وكانت مقتحمة للمجهول في مغامرة وصفية تحاول أن ترتاد بها عنان السماء حيث تحلق الكرة منفلتة من قانون الأرض، أو باطن الأرض الذي تضرب جذور الأشجار في أعماقه، أو مجاهل التفكير في هوية رجل ساكن لا تقول شيئا غير أنه هرم ينتظر.
الضمير المستخدم في الوصف هو ضمير المتكلم؛ مما يعني أن الساردة طرف في الحكاية وشخصية من شخصياتها، تقود مهمة السرد والوصف، وتهيمن على مقاطع الحوار الداخلي والخارجي صادرة عن رؤية سردية تبدو مصاحبة تحاول أن تستنطق الواقع الموصوف وتستكنه حقيقته، فلا تجد غير هواجسها وأسئلتها مادة للتفسير والقراءة والتأمل؛ غير أن تدخلاتها في تكييف الصورة الواقعية وتلوينها بالظلال النفسية وآلفكرية التي تستبد بها جعل الوصف ذاتيا، وصنع من اللحظة الموصوفة انشغالا فكريا وعاطفيا للساردة بامتياز، يطرح فعلا مسرودا وواقعا موصوفا موضوعا للانشغال الإنساني بقضية الشيخوخة وما تفرزه من وحدة وعزلة وكآبة وعجز وانفصال عن العالم، على الناس أن يعيدو النظر في مواقفهم إزاءها حتى لا تظل نشازا في جسم الإنسانية الذي يفترض أن يكون متآلفا ومتناغما ومتضامنا.
تركيب وتقويم
تطرق القصة موضوعا اجتماعيا يشغل بال الأدباء والمثقفين والفاعلين الاجتماعيين، ويتعلق بفئة من الناس قدمت زهرة عمرها خدمة للجيل الصاعد، ثم وجدت نفسها في شيخوختها تقاسي مرارة الوحدة والعزلة والانكماش والاكتئاب، تنزوي وحيدة في فضاء عام تنتظر انسلاخ الليل من النهار، وتلوذ بالفراش ترقب انبلاج الصباح مستغرقة في تأمل طويل وصمت ثقيل وجمود مريع، تنظر إلى العالم حولها بعين الماضي، ويمثل الموت لها المستقبل المنظور. تلك بعض من البلابل التي خامرت دخيلة الساردة، وهزت أركانها النفسية وهي تبلور صور المسن الهرم الجالس كنصب منحوث على مقعد في الحديقة حيث كانت تمرح وطفلها. ولعلها استحضرت أياما قادمة تجلس هي الأخرى نفس المجلس، فراعها ذلك وكدر يومها المرح، وودت لو تعلم ما الذي يقعد الرجل هناك؟ ومن أين اتى ؟ وماذا ينتظر ؟ ومن أهله ؟ وهل من سبيل لإخراجه من دوامة الصمت والجمود؟
صاغت ”رضوى عاشور” هذا الموضوع في قالب سردي قصير انصهرت فيه مكونات السرد انصهارا جميلا ومؤثرا تداخلت فيه عوالم الحركة الظاهرة والباطنة، واتحد الزمان والمكان في نسق واحد، وطال الوصف كل شيء، وبدت الساردة جزأ ملتحما بالعالم الموصوف والمسرود يكشف عن رؤية مصاحبة تبعث إلى المتلقي رسالة مؤداها ألا مناص من الشيخوخة، وأن الحياة تستمر محتفية بالبراعم والأغصان النضرة، فلا أقل من اعتراف بالجميل واهتمام بالجذور.