الجمال - تحليل نص 'عش للجمال' لإيليا أبي ماضي
عِش لِلجَمالِ تَراهُ العَينُ مُؤتَلَقــــــــاً في أَنجُمِ اللَيلِ أَو زَهرِ البَساتينِ إيليا أبي ماضي |
ملاحظة النص
يتضمن عنوان النص دعوة إلى جعل ” الجمال ” سببا للعيش وغاية في الحياة ، وهي دعوة توحي بأن الجمال أسمى قيمة تحيط بالإنسان ، وأنه في الطبيعة أظهر وأوفى ، وأنه يتجاوز الظاهر والشكل، ويكمن في التناسق المثير بين العناصر والانسجام الرائع بين الأجزاء، والتناغم اللامحدود للأشكال والحركة والألوان والأصوات والإيحاأت الدالة المتصلة بأكناه الأشياء وحقائق الموجودات ، وما يثيره في النفس من إحساس عميق ومعاناة ممتعة صادقة. ولعل لوحة فان غوغ المصاحبة للنص بألوانها وأشكالها السديمية ودلالاتها على نقاء الطبيعة وجمالها، ومضمون البيتين الأول والتاسع ، يعكسان هذا المفهوم. والنص لإيليا أبي ماضي الشاعر المهجري الذي جمع بين أحلام الرومانسية ونزعاتها الإنسانية وروحانية الأدب الأمريكي في مسحة تفاؤلية تدعو الإنسان إلى الالتفات إلى كل جميل ونبيل والابتعاد عن كل قبيح وشرير.
فهم النص
يستهدف الشاعر في البيت الأول الإنسان بشكل عام ، ويدعوه إلى معانقة الجمال المبثوث حوله في كل مظاهر الطبيعة مركزا على ما تلتقطه العين من أجزاء لها سحر خاص ووقع كبير على نفسية المتأمل ( النجوم والأزهار).
يستمر سرد منابع الجمال في الطبيعة من مطلع القصيدة إلى البيت الخامس استمرارا قائما على تحريك الجماد وبث الحياة فيه، وإلباسه المشاعر الإنسانية المثالية والحالمة بلغة تصويرية شفافة، وهكذا ينصب كف الأصيل في الربى خيمة من ذهب كبيرة لأزهار الرياحين ، ويلف الليل الجبال فيكسوها لباسا أسود كمسوح الرهبان يزيدها جلالا وجمالا، بينما السواقي تثرثر كالأطفال ثرثرة جميلة وبريئة وعذبة، والبروق تضحك ضحكا عريضا مدويا خاما وغامضا وملفتا كضحك المجانين، وتبتسم الطبيعة ابتهاجا ومرحا أواخر الربيع ، وتخلد للسكون استغراقا في التأمل الحكيم والهدوء الساحر أوائل الخريف.
الإنسان في نظر الشاعر عاجز عن استقصاء الجمال المحيط بالإنسان في الطبيعة والحياة ، لأن هذا الجمال لا نهائي وغير محدود، بينما يقف إدراك الإنسان وإحساسه عند حدود معينة مهما كان أصيلا وعميقا ومرهفا، ناهيك عن كونه متفاوتا من إنسان لآخر ومتجاوزا وظائف الحواس البسيطة وعملياتها الإدراكية السطحية وأشكال الظواهر المرئية وخصائصها العرضية، فقد يلتمس في مظهر حسناء فاتنة كما يلتمس في أطمار معدمة بائسة، وقد يدركه الأعمى، ويفتتن به، ويغفله المبصرون السذج.
يجدد الشاعر دعوته في آخر قصيدته للإنسان إلى الذوبان في الجمال والتقاط أسراره بالنظر المتأمل والاستبصار العميق الذي يتغلغل إلى المكونات الموجودة في الطبيعة والحياة ، فيستكشف ينابيع الجمال فيها التي تحيل الكون والإنسان إلى وجودج جميل ينبض بالسعادة والخير والأمل والحلم، ويخلص الإنسان من ميوله المادية الصرفة (تماثيل من الطين) التي تكبله وتستعبده.
تحليل النص
المستوى الدلالي
صاغ الشاعر دعوته للإنسان إلى رحاب الجمال بلغة تصويرية موحية رصدت مظاهر الجمال وكشفت عن أسرارها العميقة عبر نفس حجاجي اضطلع فيه الأسلوب بوظيفتين إقناعية وإمتاعية.
يتمفصل النص إلى ثلاثة مفاصل دلالية كبرى نعنونها كالآتي:
- دعوة الشاعر الإنسان إلى الاستمتاع بالجمال المحيط به من كل جهة
- إقرار الشاعر بعجز الإنسان محدود القوة الإدراكية عن الإحاطة بأسرار الجمال غير المحدود.
- دعوة الإنسان إلى التخلص من قيوده المادية وإدراكه السطحي لسبر أغوار الجمال السحيقة في الأشياء.
المستوى الدالي
وظف الشاعر معجما فنيا غنيا بعناصر الطبيعة وصفات الجمال المتصلة بها كشأن الرومانسيين في اعتبار الطبيعة خزانا لا حدود له لمعاني الجمال وأسراره ، ويمكن تمثيل العلاقة بين هذين المكونين في الجدول التالي:
عناصر الطبيعة | صفات الجمال المتصلة بها |
الأزهار – النجوم – السواقي – البروق – شمس الأصيل – الجبال – الربيع ( أيار) – الخريف ( تشرين ) … | الجمال – الائتلاق – ثرثرة الأطفال – ضحك المجانين – لون الذهب المسبل على الرياحين – سواد الليل وجلاله ورهبته – شموخ الجبال – الابتسام – انسدال الأجفان… |
يغلب على لغة النص الطابع التصويري الإيحائي، حيث تستعار فيها أفعال الإنسان وملامحه وتسند إلى مكونات الطبيعة، وتشحن فيها بعض الألفاظ بدلالات تتجاوز المحمول الدلالي البسيط ، ومن أمثلتها: نصبت كف الأصيل سرادقا من نضار للرياحين ـ لف المساء الجبال بسرابيل الرهابين ـ ابتسامات أيار ـ ضحك تشرين ـ تماثيل من الطين …
استعمل الشاعر أدلة حسية وأخرى عقلية ليبين للمتلقي مكامن الجمال في الطبيعة في معادلات منطقية صارمة ولمسات حجاجية معقولة ومقبولة، فمن الاستدلال بالمحسوس استعراضه مظاهر الجمال الملتقطة بالمدارك الحسية البسيطة مما يشترك في التسليم به كل الناس، ومن الاستدلال بالمعقول تقريره أن أسرار الجمال خفية وغير محدودة تتطلب عمليات إدراكية معقدة يتفاوت الناس في إجرائها، وتستدعي تجاوز الوظائف البسيطة للحواس إلى الاستغراق في التأمل ، واستنفار الخاصية الإحساسية المرهفة والميزة الانفعالية المتدفقة والموهبة الذوقية الخلاقة التي تكفل الوصول إلى بعض من أسرار الجمال اللانهائية.
الأسلوب اللغوي
تكررت في القصيدة ألفاظ وعبارات بعينها مثل: ” عش للجمال” ، وحرف الجر ” في ” ، و”كم الخبرية” ، ولهذا التكرار وظيفة جمالية تنسجم مع مقصدية النص المتجلية في إبراز التدفق الهائل للجمال في محيط الإنسان تدفقا من شأنه أن يهبه الحياة الجميلة المفعمة بالحق والخير والنور والأمل والقدرة على الإبداع والتماهي في الجمال ، ووظيفة جمالية أخرى مؤثرة بما وفره من انسجام تركيبي ودلالي وكثافة إيقاعية.
تركيب وتقويم
النص نداء جميل موجه إلى الإنسان كي يسبح بكل حواسه الظاهرة والباطنة في مظاهر الجمال التي تكتنف الوجود وتصنع أجزاءه، متجردا من قيود المادة التي تعيق قدراته الإدراكية عن التوغل في عوالم الجمال الدفينة وأسراره المجهولة، وهو نداء يتوسل بلغة بسيطة ومناسبة يخلق فيها التكرار وكتل الصوت اللينة ومعجم الطبيعة والوجدان وتناغم المقاطع النغمية القصيرة والمتوسطة لبحر الخفيف عالما رومانسيا حالما ولحنا أثيريا متدفقا يشعان جمالا وإيحاء.