تأطير إشكالي عام لمجزوءة المعرفة
عندما ينفتح الفكر، من خلال مجموعة من الأنشطة العقلية، على موضوع خارجي أو على الذات نفسها، مستهدفا الفهم أو الوصف أو التفسير أو التنبؤ...نسمي ما ينتج عن ذلك معرفة بصفة عامة. إلا أن هذا الانفتاح، عندما يستهدف موضوعا خارجياء دون تدخل للذات في ذلك الموضوعء نسمي ذلك معرفة علمية، تفضي بنا الى ما يعرف عادة بالعلوم "الحقة" أما عندما يكون موضوع المعرفة هو الذات نفسها، حيث يصعب القيام بعملية الفصل بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، وما يترتب عن ذلك من صعوبات في مطلب الموضوعية، فإننا نتحدث عن علوم إنسانية، أو دراسات إنسانية، أو إنسانيات على حد تعبير لويس ألتوسير. وسواء تعلق الأمر بالشكل الأول، أو بالشكل الثاني، فإننا نجد أنفسنا دوما أمام ذات وموضوع، وما يمكن أن يترتب عن العلاقة التي ينبغي ان تكون بينهما، وهي العلاقة التي تتراوح بين الانفصال التام، وأي فصل الذات عن الموضوع (الموضوعية) وبين عدم القدرة على تحقيق هذا المطلب (الذاتية). إن طبيعة العلاقة بين الذات والموضوع هي الإشكال الأساسي للمعرفة عموما، وللمعرفة العلمية على وجه الخصوص، سواء كانت طبيعية أو إنسانية.
انطلاقا من ذلك يبدو أن جدلية الفكري (أو ما ينتمي الى الذات) والواقعي (أو ماهو مرتبط بالموضوع) هي جدلية تحتل مكانا أساسيا في صيرورة وبناء المعرفة العلمية، ومن ثمة يمكننا طرح التساؤل التالي: هل يمكن لهذه المعرفة أن تبنى بناء عقليا صرفا (أي بناء نظريا خالصا) أم أنها مطالية لكي تصبح نظرية علمية حقة، بأن تستحضر موضوع دراستها استحضارا واقعيا (تجريبيا) بالإصغاء أو الإنصات إليه؟ إن طبيعة هذا التساؤل تعكس الإشكالية الأساسية للنظرية والتجربة. فإذا كان العلم علم بواقع ما ءكما يرى البعضء (كلود بيرنار) فإن ذلك الواقع يقتضي منا استحضاره كمنطلق لبناء أية نظرية وكتمحيص لصدقها أو عدم صدقها. ولعل عملية الاستحضار هذه هي ما يقودنا الى إثارة مسألة التجريب والتجربة. فما المقصود بالتجريب ؟ وما المقصود بالتجربة ؟ هل يمكن اعتبار كل من التجريب والتجربة إسمين يحملان نفس الدلالة، أم أن لكل واحد منهما دلالته الخاصة، بالرغم مما يمكن أن يحصل من تداخل أو تقاطع بينهما ؟ يقودنا مفهوم التجربة أيضا الى طرح التساؤل التالي: هل المقصود دوما بالتجربة هو تلك الممارسة التي تتم داخل المختبر، ونكون خاضعة لشروط محددة، أم أن التجربة يمكن أن تحمل دلالة أخرى تجعل منها فكرية محضة (روني طوم).
وسواء كانت المعرفة العلمية مؤسسة وقائمة على تجارب مخبرية أو على تجارب عقلية نظرية صرفة فإن ذلك هو ما سيقودنا بالضرورة الى التساؤل عن طبيعة العقلانية العلمية: فهل تعتبر هذه العقلانية عقلانية مشروطة بالتجربة في مسار بنائها أم أنها قادرة على أن تكون مجرد أفكار تربط بينها قوانين وتشق منها قضايا بواسطة الاستنباط المنطقي أم أنها ليست لا هذا ولا ذاك، أو هذا وذاك في نفس الوقت بحيث يستلزم بناؤها اعتماد الحوار المتبادل بين ماهو عقلاني وماهو تجريبي، حتى يحصل ذلك اليقين المزدوج، الذي يجعل الواقع خاضعا لما هو عقلي، مثلما يجعل الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة لا تخرج عن نطاقها (باشلار) ؟
انطلاقا من مجمل التساؤلات السابقة، يمكننا أن نثير إشكالا مرتبطا بسابقيه،و يتعلق الأمر بمعايير علمية النظريات العلمية. فما هي المعايير التي يمكن اعتمادها للحكم على علمية نظرية ما أو عدم علميتها؟ هل يكون لزاما علينا أن نعدد الاختبارات التجريبية وألا نكتفي بالاختبار الواحد، أو التجربة المعزولة حتى نقول عن تلك النظرية بأنها نظرية علمية (تويليي) أم أنه يلزم أن نركز على بنائها الداخلي الذي ينبغي أن يقوم على نسق من القضايا، يتم استنباطها من عدد قليل من المبادئ وفق قواعد التحليل الرياضي،و بعيدا عن أية وقائع محسوسة (أينشتين)، أم أنه ينبغي اعتبار القابلية للتكذيب، القائمة على القدرة على تفنيد نظرية ما باعتبارها نظرية غير تجريبية، من خلال تبيان العيب الممكن فيها، هو ما يمكن أن يمنح لتلك النظرية طابعها العلمي (كارل بوبر) ؟
وإذا كان هذا ينطبق على العلوم المسماة علوما حقة، فإن العلوم الإنسانية تطرح إشكالات من نوع آخر، ولعل أهمها هو صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية، فإلى أي مدى يمكن الفصل بين الذات والموضوع عندما يكون هذا الموضوع ذاتا أخرى ؟ (بياجيه) كيف يمكن للباحث الاجتماعي الانفصال الكلي عن المجتمع الذي يعيش فيه حتى يضمن الموضوعية المنشودة (بيستيان) ؟ وهل يمكن اعتبار صعوبة موضعة الظاهرة المدروسة مقرونا بالعلوم الإنسانية وحدها، أم أن العلوم الحقة المعاصرة تجد نفس الصعوبة (ستراوس) ؟ ما هو الهدف الذي تسعى إليه هذه العلوم، هل هو هدف يقوم على التفسير أم على التنبؤ، أم عليهما معا (ستراوس) ؟ وبصفة عامة ما طبيعة منهج العلوم الإنسانية؟ هل يمكنها اقتباس منهج العلوم التجريبية أم أنها مطالبة بالبحث عن مناهج تلائم طبيعتها (دولتاي – بوبر) ؟ هل يمكن أن تشكل العلوم التجريبية نموذجا يقتدى به من طرف العلوم الإنسانية (طولراوواريني) أم أن العلم ماهو إلا تعبير عن المعيش بنوع من القصدية (ميرلوبونتي) ؟ هل يعتبر كل من الاقتداء بالعلوم التجريبية أو عدم الاقتداء بها خالين مما يحول دون دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية (لادريار) ؟
إن كل معرفة سواء كانت معرفة علمية أو غير علمية، إنما هي سعي الى امتلاك الحقيقة، حقيقة الأشياء حقيقة الذات، حقيقة الأفكار، حقيقة الأفعال... وليس الى الباطل أو اللاحقيقة، إلا أن هذا السعي يفضي بالضرورة الى حقائق متعددة ومختلفة ومتعارضة، الأمر الذي يجعل منها حقائق تجمع بين الحق والباطل، بين الحقيقة والرأي. انطلاقا من ذلك يمكننا أن نتساءل: ما علاقة الحقيقة بالرأي؟ هل يشكل الرأي نوعا من الحقائق أم أنه لا يعدو أن يكون مجرد انطباع ذاتي، لا يمكنه أن يرقى الى مستوى الحقيقة؟ هل بإمكاننا أن نعتبر الرأي قادرا على أن يمنحنا حقائق قائمة على القلب والغريزة، باعتبارهما مبدأين للاشتغال العقلي، أي للاستنباط (باسكال) ؟ أم أن الحقيقة – ومن ضمنها الحقيقة العلمية – لا يمكنها أن تقوم على الرأي، لأن هذا الأخير لا يفكر أو لنقل إنه يفكر بشكل سيء الأمر الذي يجعله عائقا أمام قيام المعرفة العلمية (باشلار) ؟ ألا يملك الرأي قيمة علمية عندما يكون مؤسسا على أعلى درجات الاحتمال، الأمر الذي يمكن أن يجعله قدوة لباقي المعارف (ليبنتس) ؟
إن مجمل تساؤلاتنا حول علاقة الحقيقة بالرأي، تقودنا بالضرورة الى طرح إشكال معايير الحقيقة. فما هي المعايير التي ينبغي أن تقوم عليها الحقيقة حتى تستحق أن تسمى بهذا الاسم ؟ هل ينبغي أن تقوم على الحدس والاستنباط، بحيث يكون الحدس تصورا صادرا عن ذهن خالص ويقظ، ويكون الاستنباط هو ما يمكن أن يتم استنتاجه بالضرورة من أشياء أخرى (ديكارت) ؟ وهل تكفي البساطة والوضوح والتمايز لجعل فكرة ما فكرة حقيقية، أم أن الأمر يقتضي قيام تلك الحقيقية على برهنة سليمة، سواء على المستوى المادي أو المستوى الصوري (لايبنتس) أم أن الأمر يتجاوز هذا وذاك، بحيث ينبغي البحث عن معيار الحقيقة في ذاتها بالاستناد الى يقينها وكمالها (اسبينوزا) ؟
إن مجمل تساؤلاتنا حول معيار الحقيقة، ترجع بالأساس الى كون هذه الأخيرة ذات قيمة لا يمكن لأحد أن ينتقص منها، لأنها ما يسعى إليه كل إنسان. لكن السؤال المطروح هو: من أين تستمد الحقيقة قيمتها؟ هل تستمدها من ذلك التيه الذي يحكم حياة الإنسان، وينتمي الى البنية الداخلية لكينونته ويجعله منفتحا على الغلط (هيدجر) ؟ هل تستمد الحقيقة قيمتها من اعتبارها نقيضا للخطإ أم من اعتبارها نقيضا للعنف، حيث يتم التحول من التطابق بين الفكر والواقع، الى التطابق بين الإنسان وبين الفكر أو الخطاب المتماسك الذي يعرف فيما يفكر ، ويفكر فيما يعرف (إريك فايل) ؟ ألا يمكن القول بأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها ما يسمح ببقائنا واستمرارنا، ولو منخلال تلك الأوهام التي نسينا أنها كذلك بفرط الاستعمال، وبتدخل اللغة القائمة على الاستعارات، والكنايات، والتشبيهات (نيتشه) ؟
يتضح أن ما كان يحكم مختلف تساؤلاتنا حول المعرفة (علمية كانت أو غير علمية)، وحول الحقيقة هو ثنائية ذات/ موضوع بالأساس، ذات عارفة، وموضوع للمعرفة، وكل ما يمكن أن يثيره ذلك من صعوبات إن على مستوى الذات، أو على مستوى الموضوع، أو على المستويين معا.