مفهوم الواجب
المحور الأول: الواجب والإكراه
الحدیث عن مفهوم الواجب یجرنا للتساؤل عما إذا كان إلزاما أم التزاما ؟ بمعنى آخر هل ما نقدمه من واجب هو صادر عن رضى وطیب خاطر ؟ أم لأننا أرغمنا علیه ؟
موقف كانط
یذهب كانط إلى اعتبار الواجب هو القیام بالفعل احتراما للقانون الذاتي الأخلاقي القائم على الخیر الأسمى، والمؤسس على العقل والإرادة. وعلى هذا النحو یكون المرجع الأساسي الذي یجب أن ینطلق منه الجمیع هو العقل لأنه كوني بالنسبة للجمیع. والحكم الأخلاقي إذ یصدر عن الإرادة الخیرة، التي مصدرها العقل هي الأخرى، فهو أیضا یمكن توصیفه بالكوني. لذلك وضع قوانین تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صیغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعین لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حیث هو فعل خاضع للعقل، وللحریة، لأن مصدره الإرادة.
موقف غویو
یرى غویو أن الفعل الأخلاقي لا یجب أن یصدر عن إلزام ولا عن خوف من أي جزاء أو عقاب. إنما یكون هو فعلا تأسیسیا لمسار الحیاة الذي لا ینتهي، ولغایات حددتها الطبیعة الإنسانیة بوصفها فاعلیة مطلقة نحو الحیاة. لكن الواجب الأخلاقي من وجهة النظر الطبیعیة هاته التي لیس فیها شيء غیبي، یرتد إلى القانون الطبیعي الشامل ، فمصدره هو الشعور الفیاض "بأننا عشنا و أننا أدینا مهمتنا ... وسوف تستمر الحیاة بعدنا، من دوننا، ولكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار". والمنحى نفسه یتخذه نیتشه حین یؤسس الأخلاق على مبدأ الحیاة بوصفها اندفاع خلاق محض. إذ الفعل الأخلاقي عند نیتشه ما یخدم الحیاة ویزید من قوتها ولیس ما یضعف الحیاة ویزید من محدودیتها. هكذا هو الخیر والشر عند نیتشه.
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي
یعتبر مفهوم الوعي الأخلاقي مفهوما مركزیا في الفلسفات الأخلاقیة. فما هو الأساس الذي یقوم علیه هذا الوعي ؟
موقف روسو
یرى روسو أن الوعي الأخلاقي إحساس داخلي موطنه وجداننا فنحن نحسه قبل معرفته، وهو الذي یساعدنا على التمییز بین الخیر والشر، والحسن والقبیح، وهي إحساسات طبیعیة وفطریة یسعى الإنسان من خلالها إلى تفادي ما یلحق الأذى به وبالآخرین، ویمیل إلى ما یعود علیه وعلى الآخرین بالنفع. الأمر الذي یقوي لدیه الوعي الأخلاقي فیجعله متمیزا عن باقي الكائنات الحیوانیة الأخرى.
موقف هیجل
یعتبر الوعي الأخلاقي هو الربط بین الواجب والمبادئ الأخلاقیة. وفي هذا الإطار یمیز هیجل بین الواجب بمعناه القانوني والواجب بمعناه الأخلاقي، فإذا كان النوع الأول من الواجب یعتبر نموذجیا، فإن النوع الثاني یفتقر إلى الطابع النموذجي، وذلك لقیامه على الإرادة الذاتیة. لكن سرعان ما سیعكس هیجل هذا الحكم، عندما سیعتبر الواجب القانوني واجبا یفتقر إلى الاستعداد الفكري، على عكس الواجب الأخلاقي الذي یستدعي ذلك الاستعداد، ویقتضي أن یكون مطابقا للحق في ذاته. وعلى هذا النحو یصبح للواجب الأخلاقي قیمة باعتباره وعیا ذاتیا ولیس إلزاما خارجیا.
المحور الثالث: الواجب والمجتمع
ماهي الصلة التي یمكن إقامتها بین الواجب والمجتمع ؟ وكیف تتحدد واجبات الفرد تجاه المجتمع والآخرین ؟
موقف دوركهایم
یرى بأن المجتمع یشكل سلطة معنویة تتحكم في وجدان الأفراد، ویكون نظرتهم لمختلف أنماط السلوك داخله، ومن ثمة فالمجتمع یمارس نوعا من القهر والجبر على الأفراد إذ هو الذي یرسم لهم معالم الامتثال للواجب الأخلاقي والنظم الأخلاقیة عموما، ولما كانت الحال كذلك لأن الأفراد یُسلب منهم الوعي بالفعل الأخلاقي، لأنه لم یكن نابعا من إرادة حرة وواعیة وإنما عن ضمیر ووعي جمعیین هما المتحكمان في سلوكیات الأفراد. وبالتالي فالمجتمع سلطة إلزامیة والتي یجب أن نخضع لها لأنها تحكمنا وتربطنا بغایات تتجاوزنا. ومن ثمة فالمجتمع یتعالى على الإرادات الفردیة، ویفرض السلوكیات التي یجب أن یكون بما فیها السلوكیات الأخلاقیة لأن المجتمع قوة أخلاقیة كبیرة. فیحقق الأفراد غایة المجتمع لا غایة ذواتهم والإنصات لصوته الآمر لأن تلك المشاعر التي تملي علینا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة و ضمیرنا الأخلاقي لم ینتج إلا عن المجتمع ولا یعبر إلا عنه.
موقف ماكس فیبر
ینصرف في حدیثه عن الواجب الأخلاقي والأخلاق عموما إلى القول بأن الأخلاق في مجملها تنقسم إلى نمطین اثنین: نمط أول موسوم بأخلاق الاقتناع ذات المظهر المثالي والمتعالي التي یكون فیها الفرد غیر متحمل لأیة مسؤولیة، وإنما هي مركونة إلى المؤثرات والعوامل الخارجیة التي لا یتدخل فیها الفرد، وإنما تطرح فیه بتأثیر الأبعاد الدینیة، بما هي صوت متعال یصدر أوامره، حیث إن أخلاقیة الاقتناع لن ترجع المسؤولیة إلى الفاعل، بل إلى العالم المحیط وإلى حماقة البشر وإلى مشیئة الله الذي خلق الناس على هذه الصورة. ونمط ثان من الأخلاق هو ما أطلق علیه أخلاق المسؤولیة، التي تصدر من الذات الفردیة و تتأسس على الوعي الفردي الحر، إذ "نحن مسئولون عن النتائج التي تمكن توقعها لأفعالنا"، ولا ترجع المسؤولیة إلى بعد خارجي قسري، لا علاقة لهذه الأخلاق بالقدر أو بالحظ.
مفهوم الحریة
المحور الأول: الحریة والحتمية
إذا كانت الحریة تتحدد بقدرة الفرد على الفعل والاختیار، فهل ستكون هذه الحریة مطلقة أم نسبیة ؟ وهل ثمة حتمیات وضرورات تحد من تحقیق الإرادة الحرة لدى الإنسان ؟ هل الحریة تتعارض مع الحثمیة أم أن الوعي بالحثمیة هو أساس الحریة ؟
موقف إسبینوزا
یرى سبینوزا أن الحریة، أو بالأحرى الشعور بالحریة مجرد خطأ ناشئ مما في غیر المطابقة من نقص وغموض، فالناس یعتقدون أنهم أحرار لأنهم یجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما یظن الطفل الخائف انه حر في أن یهرب، ویظن السكران انه یصدر عن حریة تامة، فإذا ما تاب إلى رشده عرف خطأه. فلو كان الحجر یفكر، لاعتقد بدوره أنه إنما یسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وبذلك تكون الحریة الإنسانیة خاضعة لمنطق الأسباب والمسببات الذي لیس سوى منطق الحتمیة.
موقف كانط
كانط ینطلق في معرض بحثه لمفهوم الحریة، من فكرة تبدو له من المسلمات والبدیهیات، مفادها أن الحریة خاصیة الموجودات العاقلة بالإجمال، لأن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحریة. غیر أن أي محاولة من العقل لتفسیر إمكان الحریة تبوء بالفشل، على اعتبار أنها معارضة لطبیعة العقل من حیث أن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وأن الشعور الباطن لا یدرك سوى ظواهر معینة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبیعة الحریة نفسها من حیث أن تفسیرها یعني ردها إلى شروط وهي علیة غیر مشروطة. كما ینص كانط على التعامل مع الإنسان باعتباره غایة، لا باعتباره وسیلة، ذلك لأن ما یعتبر غایة في ذاته، هو كل ما یستمد قیمته من ذاته، ویستمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي یعني استقلال الإرادة. یقتضي هذا المبدأ بان یختار كل فرد بحریة الأهداف والغایات التي یرید تحقیقها بعیدا عن قانون التسلسل العلي الذي یتحكم في الظواهر الطبیعیة.
المحور الثاني: حریة الإرادة
هل أفعالنا نتاج لارادتنا أم أننا ملزمون بها ؟
موقف سارتر
لا یختلف اثنان في اعتبار سارتر فیلسوف الحریة بامتیاز، وكیف لا وهو الذي نصب نفسه عدوا لذوذا للجبریین. لقد بذل هذا الفیلسوف قصارى جهده للهبوط بالإنسان إلى المستوى البیولوجي المحض. فالحریة هي نسیج الوجود الإنساني، كما أنها الشرط الأول للعقل "إن الإنسان حر، قدر الإنسان أن یكون حرا، محكوم على الإنسان لأنه لم یخلق نفسه وهو مع ذلك حر لأنه متى ألقي به في العالم، فإنه یكون مسؤولا عن كل ما یفعله". هكذا یتحكم الإنسان – حسب سارتر – في ذاته وهویته وحیاته، في ضوء ما یختاره لنفسه بإرادته ووفقا لإمكاناته.
موقف نیتشه
رفض الأحكام الأخلاقیة النابعة من التعالیم المسیحیة، معتبرا أنها سیئة وأنها أكدت، تأكیدا زائفا على الحب والشفقة والتعاطف، وأطاحت ،في المقابل بالمثل والقیم الیونانیة القدیمة التي اعتبرها أكثر صدقا وأكثر تناسبا مع الإنسان الأرقى. فهذه الأخلاق مفسدة تماما للإنسان الحدیث الذي یجب أن یكون "روحا حرة" ویثبت وجوده ویعتمد على نفسه ویستجیب لإرادته. فقد اعتبر بوجه عام أن الحقیقة القصوى للعالم هي الإرادة، ومثله الأعلى الأخلاقي والاجتماعي هو "الرجل الأوربي" الجید، الموهوب بروح حرة، والذي یتحرى الحقیقة بلا ریب، ویكشف عن الخرافات والترهات.
المحور الثالث: الحریة والقانون
إذا اعتبرنا أن الحریة مقترنة بالإرادة الحرة وبقدرة الفرد على التغلب على الاكراهات والحتمیات، فكیف یمكن الحد من الحریة المطلقة ؟ وما دور القانون في توفیر الحریة وترشید استعمالها؟
موقف توماس هوبز
لا یعول هوبز كثیرا على القانون، فهو یعتقد أن كینونة الحریة في الإنسان هي الدافع الأساسي لإعمال حریته ولیس القانون، مضیفا أنه إذا لم یكن الإنسان حرا بحق وحقیقة، فلیس هناك موضع للإدعاء بأن هذا الإنسان یمكنه أن یحظى بالحریة فقط عندما یكون تحت نظام قانوني معین... إذ تبقى الحریة عند هوبز نصا یمتلك معنى واسعا، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لإحراز ما یرغب فیه الإنسان، فالإرادة أو الرغبة لوحدها لا تكفي لإطلاق معنى الحریة. وهوبز كغیره من رواد الفكر السیاسي الغربي، یؤمن بأن حریة الإنسان تنتهي عند حریة الآخرین، فقد رفض الحریة الزائدة غیر المقیدة، إذ أكد بأن الحریة لیست الحریة الحقیقیة لأنها خارجة عن السیطرة، بالأحرى سیكون الإنسان مستعبدا من خلال سیادة حالة من الخوف المطرد المستمر. وهكذا ستتعرض المصالح الشخصیة الخاصة وحتى الحیاة نفسها للرعب والذعر من قبل الآخرین أثناء إعمالهم لحریاتهم. فالحریة المطلقة تقود إلى فقدان مطلق للحریة الحقیقیة.
موقف أردنت
ربطت أردنت الحریة بالحیاة الیومیة وبالمجال السیاسي العمومي، ذلك أن اعتبار الحریة حقا یشترك فیه جمیع الناس، یفترض توفر نظام سیاسي وقوانین ینظمان هذه الحریة، ویحددان مجال تعایش الحریات. أما الحدیث عن حریة داخلیة (ذاتیة)، فهو حدیث ملتبس وغیر واضح. إن الحریة، حسب أرندت، مجالها الحقیقي والوحید هو المجال السیاسي، لما یوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحریة بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس، إلا عندما یحتك الفرد بالآخرین، إن على مستوى التنقل أو التعبیر أو غیرها، فتلك هي إذن الحریة الحقیقیة والفعلیة في اعتقادها.