النظریة والتجربة
المحور الأول: التجربة والتجریب
مما لا مناص فیه، تعتبر المعرفة العلمیة نموذجا للموضوعیة والدقة في أبحاثها ونتائجها، لكن ما سبب قوتها ومصداقیتها ؟ ثم كیف تبني موضوعها ؟ هل بالاعتماد على الوقائع الحسیة أم باللجوء إلى الفكر العقلاني؟
موقف كلود برنار
یرى أن المنهج التجریبي الذي ینطلق من التجربة مرورا بالمقارنة وانتهاء بالحكم یشكل جوهر المعرفة العلمیة لكونه هو المصدر الوحید للمعرفة الإنسانیة، ولاسیما في إدراك العلاقات بین الظواهر، وفي اعتماد الاستدلال التجریبي لاستنباط الأحكام والقوانین من الظواهر الطبیعیة بغیة التحكم فیها.
موقف دافید هیوم
لا یرى ضرورة ابتداء المعرفة بالتجربة وحدها بل علیها أن تقوم كلیا على التجربة. فما یمكن ملاحظته هي الظواهر التي لایمكن تفسیرها، إذ لا شيء یمكن معرفته قبلیا دونما أي تجربة.
موقف رونیه طوم
یعتقد أن الواقعة التجریبیة لا یمكن أن تكون علمیة إلا إذا استوفت شرطین أساسین: قابلیة إعادة صنعها في مجالات زمكانیة مختلفة.
المحور الثاني: العقلانية العلمیة
في الوقت الذي یشكل فیه العقل مصدرا لبناء النظریة، یؤسس الواقع موضوعها. لكن ما الأساس الذي تبنى علیه العقلانیة العلمیة ؟ هل العقل أم التجربة، أم هما معا ؟
موقف دیكارت
يرى ضرورة بناء المعرفة العلمیة اعتمادا على العقل وحده دونما الاستعانة بالتجارب والمعارف النابعة من الحواس، لأن له جمیع الخاصیات والمؤهلات التي تتیح له إنتاج الحقیقة. فالعقل یعتمد على المبادئ التي تساعده على بلوغ أهدافه ببداهة ووضوح تامتین.
موقف كانط
له موقف یجمع فیه بین قدرات العقل ومعطیات التجربة، بمعنى التكامل بین المعرفة العقلیة القبلیة والمعرفة التجریبیة البعدیة. فالتجربة لیست إلا مجرد وسیلة یتم بموجبها الحكم على المبادئ العقلیة القبلیة لان بلوغ الأحكام الكونیة رهین بالتفكیر العقلي المنقح بالتجربة.
موقف ألبیر إنشتاین
یذهب إلى أن للعقل الدور الایجابي في المعرفة العلمیة. فالعقل هو الذي یمنح النسق الریاضي – الذي أصبح في ظل الفیزیاء المعاصرة المحدد الرئیسي – بنیته. أما التجربة فینبغي أن تتناسب مع نتائج النظریة تناسبا تاما. لأن البناء الریاضي الخالص یمكننا من اكتشاف المفاهیم والقوانین والتي تمنحنا مفتاح فهم ظواهر الطبیعة التي یرى اینشتاین أنها تتحدث لغة الأرقام.
المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية
من المصادر عنه أن المعرفة العلمیة حققت نجاحا باهرا في كل مجالات اشتغالها، والفضل في ذلك یرجع إلى زخم كبیر من الأسباب التي جعلتها تحظى بالدقة والموضوعیة والصرامة، لكن ألا یحق لنا أن نتساءل عن ما هي معاییر علمیة المعرفة العلمیة ؟ وما هي مقاییس صلاحیتها ؟
موقف برتراند راسل
أن المعرفة العلمیة التي یحصلها الإنسان على وجهین: معرفة بالحقائق الخاصة، ومعرفة بالحقائق العلمیة. فالحقائق الخاصة هي وقائع تتضمن استنتاجات تتباین درجة صحتها وصلاحیتها، في حین تتخذ الحقائق العلمیة صورة استنتاجات یقینیة. إلا أن هذه الحقائق العلمیة قد تقصر على استیفاء شرط العلمیة حینما لا تفي بمعاییر منهجیة ثلاثة تتلخص فيما يلي:
- الشك في صحة الاستقراء.
- صعوبة استنتاج ما لا یقع في تجربتنا، قیاسا على ما یقع فیها.
- افتراض إمكانیة استنتاج ما لا یدخل في تجربتنا یكون ذا طابع مجرد لذلك یعطي قدرا من المعلومات أقل مما یبدو أنه معطیه لو استخدمت اللغة العادیة.
موقف بوانكاري
یذهب إلى أن معیار الموضوعیة في العلم فیتحدد في العلاقة الموجودة بین الظواهر، لهذا لم یعد ینظر إلیها بشكل معزول مما أتاح للباحثین إمكانیة تحقیق المسافة العلمیة الضروریة بینهم وبین الموضوع المدروس. والخاصیة التي تمیز النظریات العلمیة هي قابلیتها للتطور والمراجعة والتغییر، فالنظریة قد تصبح یوما ما متجاوزة لتفسح المجال لأخرى لتحل محلها. وتتخذ لاحقا النظریة حلة جدیدة.
مفهوم الحقیقة
المحور الأول: الحقیقة والرأي
نتساءل في هذا المحور عن ماهیة الحقیقة. هل هي معطى جاهز لا یحتاج إلى تحقیق أو تنقیب ، أم أنها بناء یتأسس على الانفتاح على استكشاف الواقع دون ما حاجة إلى أفكار قبلیة جاهزة ؟
موقف دیكارت
یرفض تأسیس الحقیقة على الحواس، لأن الحواس في نظره تخدعنا وتقدم لنا حقائق ظنیة ینبغي تلافیها. رغم أنه لا ینكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا یعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقیقة، لأنها في نظره من شأن العقل وحده وهو ما یقبله العقل تلقائیا دونما حاجة إلى برهان، فالحقیقة في الأصل لیست واقعا بل أفكارا في العقل ولما كانت الحدود بین الصادق والكاذب من الأفكار لیست بینة منذ البدایة فإن الطریق إلى الحقیقة في نظر دیكارت هو الشك المنهجي.
موقف كانط
یعتبر أن الحقیقة لیست لا ذاتیة ولا موضوعیة، ولیست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج (بناء)، إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع، یبنیهما العقل انطلاقا من معطیات التجربة الحسیة مادة المعرفة التي یضفي علیها الفهم الصور والأشكال. فالحقیقة تستلزم الـــمادة والصورة، الواقع والفكر معا. وعلى هذا المضي أضحت الحقیقة متعددة ونسبیة وغیر معطاة، بل لم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطیات الواقع في أطر أو مقولات العقل.
موقف هایدجر
یذهب إلى أن الحقیقة تتخذ طعما آخر ومفهوما جدیدا، إنها في نظره توجد في الوجود. ما دام هذا الوجود لا یتمكن من التعبیر عن ذاته والكشف عن حقیقته فإنه یحتاج إلى من یقوم بذلك، والإنسان هو الكائن الوحید الذي تتجلى فیه حقیقة الوجود، لا لأنه یفكر وإنما لأنه ینطق ویتكلم ویعبر. فالإنسان في نظره نور الحقیقة في ظلمات الكینونة، فالحقیقة لیست فكرا ینضاف إلى الوجود من الخارج كما ادعى دیكارت وكانط، وإنما هي توجد في صمیم الوجود نفسه. ولیس الإنسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة، الأمر الذي یدل على أن الحقیقة هي فكر یطابق لغة معینة تعبر عن وجود معین أي كشف للكائن وحریته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له، واستقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.
المحور الثاني: معايير الحقيقة
إذا كان هدف الحقیقة هو معانقة الیقین في إنتاجها لمختلف أصناف المعارف وفي مختلف الوسائل للإقناع وبسط سلطاتها المعرفیة، فإننا نكون أمام تعدد معاییر الحقیقة. فما هو معیار الحقیقة ؟ هل هو معیار منطقي أم مادي ؟
موقف دیكارت
یرى أننا لا نخطئ إلا حینما نحكم على شيء لا تتوفر لدینا معرفة دقیقة عنه، ویعتبر أن الحقیقة بسیطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متمیزة وواضحة بذاتها. فالحقیقي بدیهي بالنسبة للعقل ولا یحتاج إلى دلیل ومتمیز عما لیس حقیقیا، إنه قائم بذاته كالنور یعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال اسبینوزا، واللاحقیقي كالظلام یوجد خارج النور، فالفكرة الصحیحة (الكل أكبر من الجزء) صادقة دوما ونقیضها خاطئ دوما.
موقف باشلار
یعتبر أن الحقیقة العلمیة خطأ تم تصحیحه، وأن كل معرفة علمیة تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجیة تؤدي إلى الخطأ، وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي. وهذا یعني أن الحقیقة لا تولد دفعة واحدة، فكل الاجتهادات الإنسانیة الأولى عبارة عن خطأ، واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقیقة.
موقف نیتشه
یرى أن الحقائق مجرد أوهام نسینا أنها أوهام وذلك بسبب نسیان منشأ اللغة وعملها، لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبیهات زینت بالصورة الشعریة والبلاغیة مما یجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبیر مطابق للواقع وللكیانات الأصلیة للأشیاء بالإضافة إلى نسیان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الإنساني وتدفعه إلى الكذب والأخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك یصبح الطریق إلى الحقیقة لیس هو العقل أو اللغة بل النسیان واللاشعور.
المحور الثالث: الحقیقة كقیمة
إن اعتقاد الإنسان في الحقائق وسعیه وراءها أمر ضروري لاستمرار الحیاة الاجتماعیة والأخلاقیة كما تبین في المحور السابق، ولعل هذا ما یطرح مسألة الحقیقة كقیمة. فمن أین تستمد الحقیقة قیمتها ؟ وما الذي یجعل الحقیقة مرغوبا فیها وغایة وهدفا للجهد الإنساني؟
موقف كیركجارد
یرى أن الحقیقة لها قیمة أخلاقیة. إنها فضیلة على الطریقة السقراطیة، قبل أن تكون مجرد معرفة، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحیاة وتعاش بالمعاناة. الحقیقة لیست شيء ثابت، إنها حوار واختلاف وهي ذاتیة لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضیلة ولیست قضیة معرفیة وغایة مذهبیة بعیدة عن شروط وجود الإنسان.
موقف ولیام جیمس
فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي والمجرد. فقیمة الحقیقة هي قدرتها على تحقیق نتائج وتأثیرات في الواقع، و بالنسبة لجیمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي، وقد تكون غیر مباشرة بمعنى غیر فعالة بشكل مباشر كحدیث ولیام جیمس عن تأثیر الإیمان في الفرد بحیث ینحت داخله مجموعة من القیم التي باكتسابها تسود قیم من قبیل الخیر والفضیلة.